كنت قد ذكرت أن أعظم مظاهر التشوه الفكري للعلمانيين من ذرارى المسلمين هي أنهم يزعمون الإيمان بوجهة نظر تقر بوجود رب وخالق وقيامة وحساب لكنهم ما بين قدومهم من الرب وإقبالهم عليه يوم القيامة يريدون عزل هذه الجزئية التي هي عمر الإنسان وحياته من هذا السياق المفاهيمي ولا يجعلون لوجهة النظر هذه أي أثر في شؤون حياتهم اللهم إلا تلك الشعائر التي يؤدونها إن كانوا أصلاً يؤدون شعائر!! وهذه المسالة أراها ضرورية جدًا في الحوار مع العلمانية لأنني أقول العلمانية لا يمكن أن تكون متسقة إلا في سياق إلحادي ينكر المبدأ والمعاد عندئذٍ له ان يعيش كما يريد هو لا كما يريد الرب، والعلمانيون من ذرارى المسلمين ان هم واجهوا الحقيقة وبحثوا عنها فى غوائر النفس وخلجات الضمير عرفوا ان اعترافهم بوجود رب لا يحكم ولا يشرِّع ولا يحلل ولا يحرم الا فى حدود الشؤون الخاصة والعبادات ولا يقيد علاقتى مع الآخر الملى أو الآخر الذمى ولا يضع لى ضوابط فى المعاملات المالية من أرزاق ساقها اليّ ثم تركنى فيها سدى ولا يحكم حربنا ولا سلمنا ولا صلة له بحقوق من شهد له بالوحدانية ومن زعم معه التثليث ولا موقف يحدده لى مِن مَن ينكر وجوده ويسخر منه ولا واجب يشرعه لي تجاه من يؤمن به او يكفر وفى الحالتين الموقف منهما سيان يقوم على قدم المساواة انه اعتراف بوجود رب كعدمه!! ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول من شبّه صفات الله بصفات خلقه عبد صنماً ومن انكر صفات الرب عبد عدماً ــ لأنه ليس ثمة رب إن سلبناه كل تلك الصفات ــ ومن اثبت صفات الرب بلا تمثيل ولا تعطيل عبد رب الأرض والسموات، والعلمانية حين تقول الرب لا يتدخل فى السياسة والاقتصاد وإنما يتدخل فى العبادات والشؤون الخاصة، اما انها اخذت هذا من الرب نفسه يعنى هو الذى قال ان اتدخل فى هذا ولا اتدخل فى هذا وطبيعة ديني يستلزم منها التدخل فى هذه الأمور وعدم التدخل فى تلك وعندئذ قلنا لهم اين قال الرب هذا «قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين» وقال تعالى «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» هذا هو الخيار الأول وهو أن يزعموا أن الرب تبارك وتعالى هو الذى بين هذا وعندئذٍ طالبناهم بالدليل والبرهان، والخيار الثانى ان يقولوا هو لم يبين هذا ولكننا نفرض عليه هذا ويجب ان تكون هذه هى طبيعة الدين وعندئذٍ صاروا رباً للرب وسلطة اعلى منه اعطت نفسها حق تحديد طبيعة الدين وتحديد خصائص الرب!! وبعض متفيقهة العلمانيين يرددون قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم «انتم اعلم بامور دنياكم» ويزعمون أن السياسة والاقتصاد من أمور الدنيا ويبقى السؤال هل هم حقيقة تبنوا العلمانية استجابة لهذا التوجيه النبوى الذى فهموه خطأ ام هذه محاولة للتلبيس منهم؟!! وهل اذا تبين لهم بمئات الآيات وآلاف الأحاديث ان الإسلام يجعل قضايا الحكم والسياسة والاقتصاد من صلب الدين سيقرون بذلك ويستجيبون لتلك الآيات والأحاديث أم أن مشكلتهم اصلاً فى تدخل النصوص فى هكذا امور فضاقوا بها ذرعًا وحرجت لها صدورهم والله تبارك وتعالى يقول «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا» وفى الحديث النبوي «تنقض عرى الإسلام عروة عروة كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها اولهن الحكم واخرهن الصلاة»، والرسول عليه الصلاة والسلام يجعل اولى عرى الإسلام التى تنقض هى الحكم ويجعل الحكم من عرى الإسلام واركان الدين والعلمانية حين تقول لا صلة بين الدين والدولة هى تصدر عن أحد جهلين أو عن الجهلين معاً إما انها تجهل معنى كلمة دين وإما أنها تجهل معنى كلمة دولة أو أنها تجهل المعنيين معًا، وان كان يحمل هذا العلماني شهادة دكتوراه فى اللغة العربية ذلك لأنه يكفيه لترك مقالته هذه معرفة ماذا يعني قوله من ناحية لغوية فقط ولم نأت للناحية الشرعية بعد !!! ومن كان الجهل هو الخيارات المتاحة أمامه فكيف يصف نفسه بالعلمية؟!

ونواصل باذن الله ...