من المفاهيم التى ينبغي أن تصحح لدى العلمانيين مفهومهم عن الدين ومفهومهم عن الدولة، إذ لو عقلوا معنى الدين ووظائف الدولة، لوجدوا أن الماعون الذى يسع الدين هو الدولة، وليس ماعون الفرد ولا ماعون المجتمع فحسب، فمن أحكام الدين ما يقوم به الفرد فى خاصة نفسه، فكانت هنالك الأحكام الخاصة التى تتعلق بالعبد وربه، ومن أحكام الدين ما يتعلق بالمعاملات المالية والبيوع والانتاج. وتدوير المال لا قصر تداوله بين طائفة من الناس، وافضلية القروض على الصدقات، فكانت هنالك الاحكام الاقتصادية. ومن أحكام الدين ما يتعلق بالزوج والزوجة والاسرة، فكانت هنالك الأحكام الاجتماعية. ومن أحكام الدين ما يتعلق بالتعامل مع الآخر حرباً وسلماً، والعهود والمواثيق بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم، فكانت هنالك الأحكام التي تتعلق بالعلاقات الخارجية، ومن أحكام الدين ما يتعلق بالتعامل مع مخالفي الشريعة بالعقوبة حداً أو تعزيراً، فكانت هنالك الأحكام التي تتعلق بالقانون الجنائي، بل وقانون الإجراءات الجنائية الذي يتحدث عن الإثبات وطرقه والشهود وصفاتهم، ومن أحكام الدين ما يتعلق باللهو وحدوده واللعب والاستهام والمسابقة والتنافس وأحكام الدف والمعازف والنرد، فكانت هنالك الأحكام الثقافية، ومن أحكام الدين ما يتعلق بالحذر وضوابطه، والظن وحالاته والتجسس وأحكامه، فكانت هنالك الأحكام الأمنية، ومن أحكام الدين ما يتعلق بشروط الإمامة الكبرى ووجوب الشورى وأحكام البيعة وضوابط عزل الحاكم، فكانت هنالك الأحكام السياسية، فالماعون الذي يسع الدين هو ماعون الدولة، والقول بأن الأحكام التي تتعلق بالفرد وربه هي فقط الدين أو تلك الي تتعلق بالفرد والأسرة أو ما اصطلح على سميته بالأحوال الشخصية هو إعمال لجزء يسير من أحكام الدين وتعطيل لكل ما سبق ذكره من أباوب لم يخلُ منها كتاب فقه إسلامي، فأصغر كتب الفقه اشتمل على «47» باباً، وأوسع كتب الفقه اشتمل على «170» باباً لم تتجاوز ما يزعم العلمانيون أنه الدين فقط من صلاة وصوم وزكاة وحج وطهارة السبعة أبواب، وبقية الأبواب تتحدث عن حياة الناس العامة، وأورد الفقهاء فيها مئات الآيات وآلاف الأحاديث، فأين ذهبت هذه الأبواب؟ وهل وقف العلمانيون عليها؟ لا أظن ذلك.القرآن لم يضع قاعدة لكيفية اختيار الحاكم. والرسول لم يعرض لهذه القضيِّة من قريب أو بعيد وإلا لما حدث الخلافُ حولها كما سنوضح لاحقاً. الشورى من الناحية الإجرائية ــ لم تكن في يوم من الأيام وسيلة لاختيار الحاكم بأسلوب مُحدَّد ومُفصَّل ومتفقٌ حوله. ومن ناحية النتائج فقد كان هُناك على الدوام اختلافٌ في أمرها هل هي مُلزمة للحاكم أم غير مُلزمة» أولاً في هذا الكلام تخليط كبير وبيان فساده من سبعة أوجه:
1/ لم يختلف الفقهاء فى حكم الشورى والجميع يقول بوجوبها لقوله تبارك وتعالى «وشاورهم في الأمر» والأمر للوجوب ما لم يأت صارف يصرفه عن ذلك، وإنما اختلفوا فى الأخذ بالمشورة بعد التشاور، وهل يجب على الحاكم الأخذ بالمشورة أو لا يجب؟ وفرق بين أن يشاور ابتداءً فيستفيد من آراء الناس ويستطلع مواقفهم ثم له أن يأخذ بأحسنها أو يرشده ما استمع إليه إلى الخلوص إلى رأي آخر لم يقل به أحد من الذين شاورهم، وهذا خلاف فقهي لا عقدي.
2/ الفرق بين الديمقراطية والشورى ليس خلافاً فقهياً على نحو ما وقع بين الفقهاء في حكم الأخذ بالمشورة لا في حكم الشورى ابتداءً، إذ الخلاف بين الشورى والديمقراطية في موضوع كل واحد منهما ومجاله لا فى كيفيته وآلياته. وصرف الحديث إلى الآليات والكيفية وما إذا كانت منضبطة أم لا هو صرف للأنظار عن أس الخلاف وأساس التناقض بين المصطلحين، فالديمقراطية منحوت لفظي في جدار الحضارة الغربية يعني حق الشعب في اختيار أحكامه واختيار من يحكمه بها !! والشورى منحوت لفظي في جدار الحضارة الإسلامية يعني حق الأمة في اختيار حكامها لا أحكامها، إذ الأحكام والقوانين لا يشرعها الحاكم وإنما يطبقها مستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا تأملنا القرآن وجدنا أن الله عزَّ وجلَّ نفى الخيار عن الإنسان في أمرين اثنين يتعلقان بربوبيته تبارك وتعالى، أولهما في خلق الإنسان وإيجاده لم يكن للإنسان خيار وهي ميم المبدأ فقال تعالى «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» «68» سورة القصص، فلم يختر أحد منا أباه ولا أمه ولا قبيلته ولا لونه. والأمر الثاني في الطريقة التي يجب أن يعيش بها فى الحياة، فإن كان حقيقة عبداً لله يقر بربوبيته فليس له أن يختار أحكامه وتشريعاته بل يذعن مسلماً خاضعاً لأحكام الله تعالى، هذا إن كان مؤمناً، أما إن كان كافراً فله ما يريد، فقط فليتحمل نتيجة اختياره في الدنيا والآخرة، قال تعالى «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا» «36» سورة الأحزاب، فانظر إلى نفي الخيرة عنهم إذا ما قضى الله أمراً أو شرع حكماً، ونفي الخيار الأول نفي قدري يتعلق بالخلق، ونفي الخيار الثاني نفي تعبدي يلتزم به المؤمنون الموحدون، قال تعالى «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا». «النساء: 65» فالديمقراطية تقول للناس اختاروا هل تريدون الشريعة أم لا ؟! والشورى تقول للناس اختاروا مَنْ مِنْ الناس تريدونه ليحكمكم بالشريعة؟ وفرق بين القاعدة التي يتم على أساسها الاختيار فى المنظومتين. ونواصل باذن الله