الخير كله في طاعة لله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله، وطاعة الله تتمثل في تطبيق كتابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وطاعة رسوله تكون بالتمسك بسنته، وتطبيقها ظاهراً وباطناً، ومما جاءت السنة بالحث عليه: تعجيل الفطر، وتأخير السحور.
فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)، وفي حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وَأَخَّرُوا السُّحُور). ضعف العلماء زيادة: ( وأخروا السحور).
ومعنى تعجيل الفطر أي أن يفطر المسلم بعد غروب الشمس مباشرة ولا يتأخر؛ لأن ذلك مخالف للسنة. ومعنى تأخير السحور أي إلى قرب طلوع الفجر؛ فليس من السنة السحور نصف الليل أو بعيداً عن طلوع الفجر، قال تعالى: { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ}. قال الطبري-رحمه الله-: "وأما قوله: { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل. فدل بذلك على أن لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم". وقال القرطبي في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ} " أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف، وإلى غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه... فَشَرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار". وقال ابن كثير-رحمه الله-: "يقتضي (أن) الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً".
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم). قال الخطابي: "قوله: ( فقد أفطر الصائم) فمعناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل، وقيل: معناه أنه قد دخل في وقت الفطر، وحان له أن يفطر، كما قيل: أصبح الرجل، إذا دخل في وقت الصبح، وأمسى وأظهر كذلك".
قال ابن الملقن: "يستفاد من الحديث بيان وقت الصوم وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسّي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه، حيث جعل دخول الليل فطراً شرعاً".
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: ( يا فلان، قم فاجْدَح لنا)، قال: إن عليك نهاراً، قال: ( انزل فاجدْح لنا)، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت، قال: ( انزل فاجْدح لنا)، قال: إن عليك نهاراً، قال: ( انزل فاجْدح لنا)، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ( إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم). قال ابن حجر: "في الحديث أيضاً استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقق غروب الشمس حلّ الفطر".
وقال ابن عبد البر-رحمه الله-: "من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاك هل غابت الشمس أم لا؟؛ لأن الفرض إذا لزم بيقين لم يخرج عنه إلا بيقين".
وقال المهلب: "إنّما حضّ عليه السلام على تعجيل الفطر؛ لئلا يزاد في النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة في فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام".
وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "ظاهره أنه عليه السلام أشار أن فساد الأمور يتعلق بتغيُّر هذه السنة التي هي تعجيل الفطر، وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعلم على فساد الأمور".
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم). قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "فيه دليل على الرد على المتشيعة الذين يؤخرون إلى ظهور النجم، ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر؛ لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة، ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون).
قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتابين، وأن في موافقتهم ثلماً للدين، قال الله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}". قال ابن الملقن -رحمه الله-: "كون الناس تفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهراً بتعجيله في الرواية التي ذكرناها لما فيه من إظهار السنة، فإن الخير كله في متابعتها والشر كله في مخالفتها، وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- إذا خُذلوا في أمر فتشوا على ما تركوا من السنة، فإذا وجدوه علموا أن الخذلان إنما وقع بترك تلك السنة، فلا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ما حافظوا على سنة تعجيل الفطر، وإذا أخروه كان علامة على فسادٍ يقعون فيه".
وقال ابن حجر -رحمه الله-: "ظهور الدين مستلزم لدوام الخير". وقد كان خير البشرية وأتقاها وأنقاها أصحاب محمد أسرع الناس فطرا، وأبطأ سحورا؛ كما قال عمرو بن ميمون: "كان أصحاب محمد-صلى الله عليه وسلم- أسرع الناس إفطاراً، وأبطأ سحوراً".
وقال ابن حجر أيضاً -رحمه الله-: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان.. زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة.. وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلاّ بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، أخروا الفطور وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير، وكثر فيهم الشر، والله المستعان".
كما أنه من السنة أن يكون الفطر قبل الصلاة؛ لما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي. وفي رواية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان صائماً لم يصل حتى نأتيه برطب وماء. ففي هذا الحديث استحباب تعجيل الفطر قبل صلاة المغرب.
ومن السنة أيضاً أن يفطر على رطب، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، وأن يقطعهن وتراً، فإن لم تكن فعلى ماء؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وفي فطره بذلك حكمة؛ قال ابن العربي: "الحكمة -والله أعلم- في الفطر على التمر ما فيه من البركة، وأنها أفضل المطعومات، فتعقُبُ ليلاً أفضلَ العبادات في النهار، والماء أفضل المشروبات فيكون بدلها".
وقال الشوكاني-رحمه الله-: "وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف الصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة، وإذا كانت العلة كونه حلواً، والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه حلاوة فبفحوى الخطاب، وما كان مساوياً له فبلحنه".
ومن السنة عند الفطر أن يذكر الله بالدعاء المشروع؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: ( ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله). قال الطيبي: "( ثبت الأجر) بعد قوله: ( ذهب الظمأ) استبشار منهم؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد أن يستلذ بما أدركه مزيد استلذاذ ذكر تلك المشقة، ومن ثم حمد أهل السعادة في الجنة بعد ما أفلحوا بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}".
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يتوفانا على ذلك. اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه. اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عنا.