ويشاء القضاء والقدر، أن تتزامن وفاة الرئيس بن جديد، مع الذكرى الـ 24 لأحداث الخامس أكتوبر 88، وقبل بضعة أيام من عرض مذكرات بن جديد، الذي فضل إرجاء نشرها إلى الذكرى الـ 58 للثورة التحريرية، المصادف للفاتح نوفمبر القادم. كما تشاء مشيئة الله، أن ينتقل الرئيس بن جديد إلى جوار ربّه، بعد سبعة أشهر عن وفاة الرئيس السابق للجزائر، الراحل أحمد بن بلة، الذي حظي بجنازة رئاسية، كـُتب للشاذلي أن يحضرها بمربّع الشهداء.
وفاة الرئيس بن جديد، جاءت "مباغتة" حتى وإن أشارت بعض المعلومات أنه كان يقاوم أمراض البروستات والكلى، إلاّ أنه ظهر في صحة جيّدة، عند حضوره جنازة بن بلة، بعدما لم يفوّت حضوره بروتوكولات تخليد احتفالات عيدي الثورة والاستقلال، إلى جانب بوتفليقة وكافي وبن بلة، في تقليد جديد، اعتبره المتابعون ردّ اعتبار من بوتفليقة لسابقيه من الرؤساء.
بن جديد الذي خلف هواري بومدين، زميله في مجلس الثورة، خلال الفترة الممتدة ما بين 1979 و1992، تولى حقيبة وزير الدفاع من نوفمبر 1978 إلى فيفري 1979، قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، خلفا للرئيس الراحل هواري بومدين.. ولد الراحل الشاذلي بن جديد في الفاتح جويلية 1929 بقرية السباع ببلدية بوثلجة التابعة لولاية الطارف، انخرط سنة 1954 في جبهة التحرير الوطني قبل أن يلتحق سنة بعد ذلك بجيش التحرير الوطني بالولاية الثانية بمنطقة قسنطينة.
في 1956 أصبح الراحل قائدا في ناحيته، وبعدها نائب قائد منطقة سنة 1957 وقائد منطقة برتبة نقيب سنة 1958، كما انتقل لفترة وجيزة إلى القيادة العملياتية لمنطقة الشمال سنة 1961، ليعين عاما بعد ذلك قائدا للناحية العسكرية الخامسة في قسنطينة برتبة رائد. وفي سنة 1963 أوكلت لبن جديد مهمة الإشراف على انسحاب القوات الفرنسية من تلك المنطقة قبل أن يتولى قيادة الناحية العسكرية الثانية بمنطقة وهران في 4 جوان 1964.
الرئيس الراحل كان عضوا في مجلس الثورة في 19 جوان 1965 بعد الإطاحة بالرئيس الراحل أحمد بن بلة، في ما سمّي بـ"التصحيح الثوري"، كما تولى في فيفري 1968 الإشراف عن انسحاب القوات الفرنسية من منطقة وهران، سيما عملية الجلاء من مرسى الكبير لتتم ترقيته سنة بعد ذلك إلى رتبة عقيد، قبل أن يكلفه مجلس الثورة سنة 1978 خلال فترة مرض الراحل هواري بومدين بتولي تنسيق شؤون الدفاع الوطني.
تم تعيينه في جانفي 1979 أمينا عاما لجبهة التحرير الوطني، بعد المؤتمر الرابع، ثم مرشحا للانتخابات الرئاسية ليتم انتخابه رئيسا للجمهورية في 7 فيفري 1979 مع توليه منصب وزير الدفاع الوطني إلى غاية جويلية 1990، وهو التاريخ الذي تولى فيه هذا المنصب رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي العميد خالد نزار.
حصل بن جديد، على تجديد الثقة في منصب الأمين العام لجبهة التحرير الوطني في ديسمبر 1983، ليتم اختياره كمرشح لرئاسة الجمهورية من قبل المؤتمر الخامس للأفلان لعهدة ثانية، وأعيد انتخابه كرئيس للجمهورية مرتين متتاليتين سنتي 1984 و1988 وسمّي بن جديد بمهندس إنشاء اتحاد المغرب العربي، بعد لقاء جرى في زرالدة سنة 1989 بين قادة بلدان المغرب العربي.
غداة أحداث أكتوبر 1988 أعلن الراحل الشاذلي عن إصلاحات سياسية بينها مراجعة الدستور الذي كرس التعددية الحزبية ابتداء من فيفري 1989، في ظل إخضاع جبهة التحرير إلى "تصحيح" أفضى إلى إنهاء مهام الفقيد شريف مساعدية، واستخلافه بالراحل بعبد الحميد مهري.
وفي جوان 1991 أعلن حالة الطوارئ في كامل التراب الوطني، وقرر تأجيل الانتخابات التشريعية ليوم 27 جوان من نفس السنة، إلى 26 ديسمبر، وفي 4 جانفي 1992 وقـّع قرار حلّ المجلس الشعبي الوطني الذي كان يرأسه أنذاك عبد العزيز بلخادم.
رحيل الرئيس بن جديد، يأتي في ظرف دولي وإقليمي ووطني حسّاس ومميّز، من بين مؤشراته الحراك الحاصل بشأن "الإصلاحات السياسية" في البلاد والتحضير لتعديل الدستور، بعدما حـُسب للشاذلي توقيع شهادة ميلاد التعددية فسمّاه البعض بـ"أبو الديمقراطية"، بعدما عدّل دستور 1989 وباشر إصلاحات أعقبت "ثورة" أكتوبر 88، قبل أن يرمي المنشفة ويُغادر قصر المرادية، في 11 جانفي 1992، مباشرة عقب توقيف المسار الانتخابي.
يسقط اسم الراحل الشاذلي بن جديد من قائمة أسماء الزعماء العرب، الذين سجنوا وعذبوا وأغلقوا الأبواب في وجه العلماء، وحتى الصحوة الإسلامية في الجزائر بدأت في عهده، بعد رحيل هواري بومدين في 27 ديسمبر عام 1978، وبمجرد أن أمسك بمقاليد الحكم في التاسع من فيفري 1979، حتى أحس كل الإسلاميين بالاطمئنان. وبدأ ضيوف الجزائر من كبار العلماء يدخلونها تباعا ويحاضرون فيها، وحتى عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران، وكان الكثير من المسلمين مستبشرين بها، وقف الشاذلي بن جديد إلى جانبها وأرسل المرحوم الشيخ أحمد حماني إلى طهران، حيث التقى بالإمام آية الله الخميني، وطمأنه بأن الجزائر ستكون مع أي نهضة إسلامية، قبل أن تتغير الأمور بعد ذلك، وتأخذ منحنيات أخرى.
ولكن العلاقة الأكثر بروزا هي علاقة الشاذلي بن جديد بالشيخ المرحوم، محمد الغزالي، الذي عاش في قسنطينة قرابة الست سنوات مديرا شرفيا ومدرسا في معهد الشريعة، وكان كلما يلتقي بالشاذلي بن جديد يثني عليه، وأغضب مرة في محاضرة في الجامعة الاسلامية الأمير عبد القادر أحد الطلبة الذي ثار في وجهه، وقال له بغضب .. "إنك تتحدث كثيرا عن الشاذلي وكأنه صحابي جليل"، ونقل التلفزيون الجزائري عام 1984 صورة الشيخ الغزالي وهو يذرف الدموع في حضرة الرئيس الجزائري الأسبق، وهو الذي من النادر أن يذرف الدموع، ورد ذلك إلى تأثره بشهامة وأخلاق الشاذلي بن جديد، وسماه مرة بفارس الإسلام، وهي التسمية التي أغضبت بعض الإسلاميين في الجزائر وفي مصر، وكان للشاذلي بن جديد الفضل الأكبر في إتمام بناء الجامعة الإسلامية التي تم تسليمها في وقتها .
كما ظل يصر على أنها أزهر الجزائر والمغرب العربي، وأرسل إعلانا للبحث عن كبار العلماء للتدريس فيها في كبريات المجلات العربية، مثل المستقبل والوطن العربي وكل العرب، وتشرفت الجامعة بمرور الكثير من كبار العلماء ومنهم القرضاوي والبوطي.
وعندما سأله الشيخ الغزالي مرة عن سبب اختفاء ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تقام في العهد البومدييني، أخطره بأنه قرر إرجاعها، ولكن بشكل فكري أقوى وتجمع كل العلماء دون إقصاء، ولكن الفتنة التي هزت العالم الإسلامي في الكثير من الدول، وانسحاب الشاذلي أو سحب البساط من تحت أقدامه بخرت المشروع نهائيا، وعلى مدار 12 سنة و11 شهرا ويومين، قاد فيهما الشاذلي بن جديد الجزائر، لم يُتهم أبدا بمعاداته لعلماء الإسلام، فأدى الحج ونقلت الصحف ومنها المجاهد والشعب سفريته إلى البقاع المقدسة، ورفع من كوطة الجزائريين في الحج والتي لم تعرف بعده صعودا مهما.
كما منح بعد التغييرات السياسية عقب أحداث أكتوبر 1988 الضوء الأخضر للكثير من الأحزاب الإسلامية، وفي عالم الفن قام الشاذلي بن جديد بتوجيه دعوة للمغني الإنجليزي الشهير الذي اعتنق الإسلام، كات ستيفنس، الذي أمضى قرابة الشهر من مدينة جزائرية إلى أخرى يحاضر ويقدم تجاربه، وعندما تم توزيع فيلم الرسالة عالميا في أواخر السبيعنات من القرن الماضي، أمر الشاذلي بشراء الفيلم وتوزيعه على كل دور السنما، وتغيّر حالة قاعات السينما في كل مدن الوطن، التي عرضت الفيلم لمدة أسبوع كامل، وفتحت أبواب السينما للعائلات وبلغ سعر التذاكرة 5 دينار فقط، ومن أشهر خطب الشاذلي بن جديد، أنه عندما فتح قانون الأسرة للمناقشة قال إن القرآن الكريم هو مصدر القانون الأول، وعندما اندلع اجتياح إسرائيل للبنان في صائفة 1982 قال إن نقمة العرب في بترولهم، ولا يمكن أن تقوم لهم قائمة إلا بالوحدة التي فرضها علينا الإسلام.
. يتبع /...