الثورة السورية ومسارات التدويل
تسليح الثورة
د. أكرم حجازي
دخلت الثورة السورية عامها الثاني وسط صدمة شعبية لا نظير لها .. فالناس باتوا في حالة ذهول، وهم يفتشون عن « الذنب» الذي ارتكبوه بـ « حق» النظام، ويساءلون أنفسهم بكثير من الاستهجان والغرابة: هل ثمة ميزان من الموازين، العقدية أو القيمية أو المادية، يتيح لنظام سياسي أن يستعمل كل هذا القدر العظيم من القسوة والوحشية والغدر ضد أناس كلّ ما فعلوه هو التعبير عن حاجتهم للعيش بحرية وكرامة؟ سؤال مشروع لو أن وحشية النظام الطائفي ذاته كانت أقل قسوة من وحشية « تدويل» الثورة السورية. إذ لا خير يرجى من وحوش ضارية يمكن أن تنتصر لفرائسها قبل أن تدفع الفرائس حياتها ثمنا لحريتها.
فالثابت أنه ليس لـ « التدويل» من مخرجات سوى « إدارة الثورة» بما يحقق المصالح الدولية وليس بما يلبي طموحات الشعب السوري أو يوقف، على الأقل، سفك الدماء وبشاعات القتل الوحشية للسكان، فضلا عن التعذيب والاغتصاب والقهر والإذلال العميق لكل الفئات العمرية للشعب. ومن حيث المبدأ تعني « الإدارة» القدرة على التحكم والسيطرة في الحدث السوري. بمعنى أن « المركز» لا يبدو راغبا حتى اللحظة في « حسم» الموقف لصالح النظام السوري أو الثورة. وهكذا تبدو « « تسليح الثورة» أو « وقف المذابح» أو « الإغاثة الإنسانية» أو « تغيير النظام» أو « إقامة ممرات آمنة» أو « مناطق عازلة» أو « الحل السياسي» أو « الحرب الأهلية» أو « الحوار» أو ... كلها قضايا واقعة فعليا ما بين « الإدارة» و « الحسم». وعليه فإذا كان الجميع رابحا، بشكل أو بآخر، من « التدويل»، فلا شك أن الثورة السورية هي الخاسر الأكبر حتى الآن.
إذن « المركز» الذي يدير مصالحه في المنطقة بلغة مزدوجة، بالغة المكر والدهاء، حافظ فعليا على مصالح النظام الطائفي وحلفائه الإقليميين!!! لكن، إنْ كانت الثورة هي الضحية، فماذا عن مصالح حلفائه التاريخيين، ممثلة بدول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية؟ وهل لهذا الأمر علاقة مباشرة بالحماس السعودي لتسليح الثورة السورية؟ أم أن للأمر علاقة من وجه آخر؟
قبل مجازر « كرم الزيتون» و « العدوية» لم يكن ثمة أحد، سوى السعوديين، ينادي بتسليح الثورة السورية، لا من المستوى الدولي ولا من المستوى الإقليمي. ورغم أن الثورة تتعرض لاستنزاف ذخيرتها، ولمحاولة دولية دنيئة لنزع سلاحها، بيد النظام ذاته، في البؤر القوية مثل حمص وإدلب إلا أن المعارضة السياسية لم تكن راغبة بأي ذكر للسلاح، حتى من أولئك الذين صاروا كـ « بني إسرائيل» .. حين حرموا السلاح على أنفسهم واجتهدوا في التوسل إلى التدخل الدولي.
في البداية، فإن كل الذين رفضوا تسليح الثورة، من شتى الاتجاهات، حذروا من خطر اندلاع حرب أهليه في سوريا. وارتبط التحذير بالخشية من انتقام السنة من الطائفة العلوية على وجه الخصوص. وتبعا لذلك انحازوا لتوصيفات تؤكد على « سلمية الثورة» أو « ثورة كل السوريين» أو « نبذ الطائفية» أو « الوحدة الوطنية» أو « الحل السياسي» ... وفي خضم السنة الأولى بدت التحذيرات تكتسي محتوى آخر يتعلق بالخشية من تحول البلاد إلى ساحة لتنظيم « القاعدة» أو ما يسمونه بالقوى الإسلامية « المتطرفة» أو « المتشددة». لكن في النهاية طالبوا بالتدخل!!!! فهل كان « المركز» أصما حين كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم « سلمية .. سلمية»!!!!؟ فلنتابع ونرى.
أقوال « المركز
لا شك أن أحد أبرز التصريحات الرافضة للتدخل العسكري جاء من نيكولاي ساركوزي، الرئيس الفرنسي، حين وصف ما يجري في سوريا من تقتيل بـ « الفضيحة». ففي اجتماعه بالسفراء لتقديم تهانيه بمناسبة العام الجديد (20/1/2012) قال بأن: « تدخلا عسكريا لن يحل المشكلة بل قد يؤدي إلى الحرب والفوضى في الشرق الأوسط والعالم .. وأن فرنسا ستفعل ما بوسعها لتجنب تدخل عسكري». لكنه عبر عن حيرته بشأن ما يمكن فعله، إذ: « لا يمكننا أن نقبل القمع الوحشي من قبل القادة السوريين ضد شعبهم .. هذا قمع سيؤدي بالبلاد مباشرة إلى الفوضى، وهذه الفوضى سيستفيد منها المتطرفون من كل الجهات».
وبعد الفيتو المزدوج (4/2/2012) للصين وروسيا في مجلس الأمن، ارتفعت حمى التصريحات المتعلقة بتسليح الثورة. وتَبادَر إلى ذهن الكثير أن الحل يتجه، على الأقل، نحو تسليح الثورة بدلا من التدخل العسكري. وكما تقول صحيفة « الواشنطن بوست» فقد احتدم الجدل في الولايات المتحدة حول القيام بإجراء عسكري ما ضد النظام السوري، أملا في إسقاط الأسد وإضعاف إيران. وجاءت أوضح التصريحات من عضوي اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ الأمريكي، والشخصيتان الأشد عداء وبغضا وكراهية للإسلام والمسلمين والعرب. فقد نقلت صحيفة « نيويورك تايمز - 19/2/2012 عن جون ماكين، الذي سبق وقدم اعتذار الرئيس أوباما لأنصار الزعيم الليبي المخلوع معمر القذافي ووعدهم بدولة مستقلة جنوب البلاد، وزميله ليندسي غراهام قولهما: « إن الثوار السوريين يستحقون أن يمتلكوا السلاح من أجل الدفاع عن الشعب السوري وبالتالي إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد».
لكن الرد على تصريحات ماكين وغراهام جاء من الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس أركان الجيوش الأميركية، الذي وصف في تصريحات لـ « شبكة الأخبار الأميركية 20/2/2012 » أي تدخل محتمل في سوريا بـ « الصعب للغاية .. سيكون خطأ كبيرا إذا اعتقدنا أن هذه ليبيا أخرى .. الجيش السوري مؤهل جيدا، ولديه نظام دفاع جوي متطور ومتكامل بالإضافة إلى أسلحة كيماوية وبيولوجية»، وعليه فـ: « من المبكر اتخاذ قرار بتسليح المعارضة في سوريا، وأنا أتحدى أيا كان أن يحدد لي بوضوح هوية المعارضة السورية حاليا»، مشيرا إلى أن: « هناك معلومات تفيد بأن القاعدة متورطة وتسعى إلى دعم المعارضة .. ( المهم ) ما أريد قوله إن هناك أطرافا عدة تتدخل وكل طرف يحاول تعزيز موقعه»
وخلال جولتها في المنطقة (21/2/2012) جدد ماكين وغراهام تصريحاتهما في كابل والقاهرة، حيث قال ماكين: « إنني لا أدعو لتسليح مباشر في سوريا. لقد رأينا في ليبيا أن هناك وسائل لتزويد الناس بالسلاح حتى يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، لقد آن الأوان لكي نمنحهم الإمكانيات التي تعينهم على صد العدوان وإيقاف المذابح »، وإن عدم السعي لحل يوقف « المجزرة المستمرة في سوريا» هو « خيانة لكل ما تؤمن به الولايات المتحدة»، مشيرا إلى أنه: « ثمة طرق عديدة لحصول الثوار السوريين على السلاح دون تورط الولايات المتحدة بشكل مباشر .. لا داعي لأن ترسل الولايات المتحدة السلاح إلى الثوار السوريين بشكل مباشر، ولكن يمكن لواشنطن العمل من خلال طرف ثالث من بلدان العالم الثالث وجامعة الدول العربية». وهو رأي السناتور غراهام أيضا الذي قال: « إن جامعة الدول العربية .. يمكنها أن تكون القناة التي يجري من خلالها دعم الثوار»، مضيفا أن: « إسقاط نظام الأسد من شأنه إضعاف الموقف الإيراني».
في خضم هذا الجدل، وعشية انعقاد مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس ( 24/2/2012)، حيث توقع المراقبين تدخلا عسكري ما في سوريا أو تسليحا للثورة، إلا أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، بددت كل الآمال، وبدت كمن يقرأ الطالع، بلجوئها إلى « التمنيات» و « المراهنة» على سقوط الأسد بدلا من تسليح الثورة لإسقاطه. فبعد مشاركتها في مؤتمر لندن حول الصومال اكتفت بالقول للصحفيين: « ستكون هناك قوات معارضة مؤهلة بصورة متزايدة. سيجدون من مكان ما وبطريقة ما الوسائل للدفاع عن أنفسهم وأيضا بدء إجراءات هجومية»، مضيفة: « من الواضح بالنسبة لي أنه ستكون هناك نقطة تحول أتمنى أن تأتي آجلا وليس عاجلا حتى يتم إنقاذ المزيد من الأرواح. لكنني ليس لدي أدنى شك في أن مثل هذه النقطة ستأتي».
لكن ما أخفته كلينتون، وعلقته على قراءة الكف، كشفته فيكتوريا نولاند، المتحدثة باسم الخارجية، حين قالت: « نحن لا نعتقد أن من المنطقي المساهمة الآن في تكثيف الطابع العسكري للصراع .. فما لا نريده هو زيادة تصاعد العنف، لكن إذا لم نستطع أن نجعل بشار الأسد يستجيب للضغوط التي نمارسها جميعا فقد يكون علينا أن نبحث في اتخاذ إجراءات إضافية». بمعنى: « إذا استمع الأسد لرأي المجتمع الدولي أو إذا استجاب للضغوط التي نمارسها فستكون الفرصة ما زالت متاحة للحل السياسي».
هذا الموقف كرره حرفيا، جاي كارني، المتحدث باسم البيت الأبيض، حين قال إن: « واشنطن ما زالت ترى أن الحل السياسي هو الشيء المطلوب بسوريا». وأن بلاده: « لا تريد اتخاذ إجراءات تساهم في تعزيز الطابع العسكري للصراع في سوريا لأن ذلك قد يهوي بالبلاد في مسار محفوف بالمخاطر .. لكننا لا نستبعد اتخاذ إجراءات إضافية». كما كرره زميله غوش أرنست (25/2/2012) حين قال إن: « تصعيد النزعة العسكرية في سوريا في الوقت الحالي لا يعد هو السياسة التي نعتقد أنها حكيمة كي نتبعها حاليا».
أما كلينتون فتخلت عن « المراهنات» وكشفت عن تحفظاتها ( 26/2/2012 ) بالتحذير من مخاطر أي تدخل خارجي خشية أن يعجل بنشوب حرب أهلية، وقالت في تصريحات تلفزيونية: « إذا جلبت أسلحة آلية ( والتي ربما تستطيع تهريبها عبر الحدود) فما الذي ستفعله تلك الأسلحة أمام الدبابات والأسلحة الثقيلة. هناك مجموعة من العوامل الأكثر تعقيدا .. لدينا مجموعة خطيرة جدا من العوامل في المنطقة. القاعدة وحماس، وأولئك الذين على قائمتنا للإرهاب الذين يدعون أنهم يدعمون المعارضة. الكثير من السوريين يشعرون بالقلق بشأن ما قد يحدث لاحقا».
هذا التحفظ الفرنسي والأمريكي على التدخل العسكري أو تسليح الثورة يرجع لأكثر من سبب جوهري. فمن جهتها استعبدت مجلة « التايم – 23/2/2012 الأمريكية تسليح الثورة السورية لأن: (1) « صناع القرار بالغرب ليسوا متأكدين من هوية المعارضة، مشيرة إلى أنه لا يوجد قيادة واحدة تتحدث باسم أولئك الذين يقاتلون النظام بالمدن السورية، وأن ثمة مؤشرات على أن بعض عناصرها يتخذون موقفا عدائيا تجاه الغرب»، ولأن (2) الرؤية لم تتضح بعد بالنسبة للغرب بشأن: « ما إذا كان تسليح الثوار سيوقف القتل أم أنه سيفاقم الوضع»، و (3) رغم أن القوى الغربية تريد الإطاحة بالأسد، فإنها لا تسعى إلى ذلك بطريقة تفضي إلى فراغ سياسي قد يملؤه عناصر أكثر عداء من الأسد»، ولأنه بعد إعلان « القاعدة» عن التزامها تجاه الثورة السورية صار هناك (4) « اعتقاد لدى المخابرات الأميركية بأن شبكة الجهاديين هي التي كانت مسؤولة عن تفجيرين بدمشق وحلب، استوقفا المؤسسة الأمنية الأميركية التي باتت تستبعد تقديم المساعدة العسكرية للثورة».
اللافت للانتباه أن الروس يتقاسمون مع الأمريكيين و« التايم»، تحفظاتهم بشأن هوية المعارضة السورية. فقد سبق وعبر عنها الروس في لقاء وزير الخارجية سيرغي لافروف مع نظيره الفرنسي ألان جوبيه في العاصمة النمساوية – فيينا، لبحث مسألة الممرات الآمنة. وفي أعقاب اللقاء ( 17/2/2012) شكك لافروف في: « أهلية المعارضة في إدارة سوريا إن خرجت منتصرة من النزاع»، ومحذرا من أن: « المجموعة الدولية لا تعرف عنها إلا القليل»، قائلا: « إن القاعدة باتت ممثلة لدى هذه المعارضة». ومشيرا في الوقت ذاته: « إذا كانت الدول الكبيرة في المجموعة الدولية تطالب بتغيير النظام شرطا لأي شيء فإننا مقتنعون أن ذلك هو الطريق نحو حرب أهلية حقيقية».
ومن جهته أدان ألكسندر لوكاشيفيتش، المتحدث باسم الخارجية الروسية، دعوة السعودية وقطر المنادية بتسليح الثورة، خلال مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس، وقال في تصريحات نقلتها عنه وكالة « إيتار تاس» الروسية (3/3/2012) أن: « موسكو ستطالب مؤسسات الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب بتوضيح قانوني لدعوة بعض الدول إلى تسليح المعارضة السورية». وأضاف إنه: « بعد التأكد من وجود عناصر من تنظيم القاعدة بين صفوف المجموعات المسلحة غير القانونية على الأراضي السورية، فنحن نتساءل كيف تتوافق مثل هذه التصريحات لسياسيين مسؤولين مع القانون الدولي بشكل عام ولاسيما أن قرارات مجلس الأمن الدولي تلزم جميع الدول بعدم تمويل المنظمات الإرهابية وعدم توريد السلاح لها وعدم دعم نشاطها بأي شكل من الأشكال».
أما تصريحات إيفو دالدر، سفير الولايات المتحدة لدى « الناتو»، فقد جاءت على النقيض من إجمالي التصريحات السابقة. فلم يتطرق فيها إلى « القاعدة» كشرط مانع من التدخل، ولا إلى كل تحفظات « التايم» والروس، بالرغم من أن الخيارات المتاحة أمام الغرب لا تتعدى اثنين، وفق ما يراه بول فوليلي، كاتب صحيفة « الأوبزرفر - 26/2/2012» البريطانية: « إما تسليح الثوار أو الوقوف موقف المتفرج حتى تتغلغل القاعدة في سوريا». فحين سئل « دالدار»، في أعقاب كلمة له أمام مجلس شيكاغو للشؤون العالمية (1/3/2012)، عن « المعايير » التي تسمح لـ «الناتو» بالتدخل العسكري أورد ثلاثة شروط، أولها: الحاجة إلى حماية المدنيين، وثانيها: توفر دعم إقليمي، وثالثها: وجود أساس قانوني، وفيما عدا الشرط الأول قال: « أشك صراحة في أننا سنصل إلى النقطة التي سيكون لدينا فيها هذا الأساس».
هذا « الشك الصريح» الذي عبر عنه « دالدار» أحبط أولئك المراهنين على التدخل العسكري أو تسليح الثورة. لكنه، في نفس الوقت، أوقع الولايات المتحدة بحرج، قد يصل إلى حد « الخيانة لكل ما تؤمن به»، على حد تعبير السناتور جون ماكين!!! وللخروج من حالة « الحرج» و « الخيانة» أعلنت الولايات المتحدة أنها بدأت رحلة جديدة من البحث عن « خيارات» للنظر في المسألة السورية!!! وكأن سنة كاملة من « العبث» لا تكفي لتعرف الولايات المتحدة ما يتوجب عليها القيام به. فقد كشف الجنرال مارتن ديمبسى، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 6/3/2012 عن أن وزارة الدفاع الأمريكية: « تعد خيارات عسكرية ضد سوريا بناء على طلب الرئيس باراك أوباما»، لكنها « خيارات» قيدها ليون بانيتا، وزير الدفاع، بعبارة « إذا لزم الأمر» وبالتنسيق مع « شركائها الدوليين». واستنادا إلى صحيفة « الواشنطن بوست – 11/3/2012» التي ترى أن: « هناك ميلا متزايدا للنظر في خيارات أخرى بعدما أخفقت الجهود الدولية في إحراز تقدم يُذكر خلال أسبوعين من انعقاد مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس»، فإن « الخيارات» المقصودة تتضمن، بحسب مسؤولين من الأمم المتحدة ودول أخرى معارضة للرئيس السوري: « (1) تسليح قوات المعارضة بشكل مباشر عبر إرسال قوات لحراسة الممرات الإنسانية أو (2) إقامة مناطق آمنة، أو (3) شن غارات جوية على الدفاعات الجوية السورية».
لكن العارفين بشخصية الرئيس الأمريكي، ومنطقه، يقطعون بأنه أبعد ما يكون عن التورط بأي أعمال عسكرية. ففي معرض إعلانه عن استعداده لاستخدام القوة ضد إيران رأى محللون أمريكيون بأن: « سجل الرئيس أوباما ينطوي على تجنب أي عمل عسكري أحادي الجانب في الأزمات الدولية». وفي السياق نقلت صحيفة « الواشنطن بوست – 14/3/2012» عن كينيث بولاك المسؤول بمجلس الأمن القومي في عهد إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون قوله: « سأصدق ما قاله أوباما عندما أرى ذلك بأم عيني»، مشيرا إلى أن: « هذا الرئيس يعتقد بأنه انتخب لإخراج أميركا من الحروب في الشرق الأوسط، وليس لزجها في حروب جديدة». بل أن المسؤولين في الإدارة الأمريكية ينفون مرارا وتكرارا أن يكون لدى أوباما «عقيدة» بشأن متى يستخدم القوة العسكرية.
وقد سبق لصحيفة « نيويورك تايمز – 26/2/2012 » أن قدمت تقييما مشابها حين قالت أنه: « حتى الآن لم يعمل البيت الأبيض على تسليح الثوار السوريين»، لكنه قد يفعل ذلك: « عندما يكون التهديد أوسع نطاقا، ويتعلق بالحفاظ على النظام العالمي أكثر من أي شيء آخر .. ( أما ) سجل أوباما فيكشف عن أنه يلتمس الحل في قرارات الأمم المتحدة ومشاركة العديد من حلفاء الولايات المتحدة في ما ينوي القيام به»، وقد يبدو طريفا أن يتشابه الطرح الأمريكي مع الطرح الروسي والصيني، صاحبي الفيتو في مجلس الأمن. وفي كل الأحوال، لا يبدو، حتى الآن، أن للولايات المتحدة ما يدفعها للتدخل، وبحسب الصحيفة ذاتها فإن: « المصالح الأميركية هناك غير مباشرة في أفضل الأحوال».
أما الروس الذين يتظاهرون بالدفاع عن القانون الدولي، فقد حرصوا على إبداء قدر من « التوازن». فخلال اجتماع مجلس الأمن (13/3/2012)، الذي خصص لمناقشة أوضاع دول الربيع العربي، لام عبر وزير الخارجية، سيرغي لافروف: « السلطات السورية ( التي) تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن الوضع الحالي»، لكن دون أن يفوته التذكير بأن: « العقوبات التي تفرض من طرف واحد ومحاولات الدفع من أجل تغيير النظام في سوريا والتشجيع الذي تحظى به المعارضة المسلحة، تشكل وصفات خطرة للتلاعب الجيوسياسي».
ومن جهته حذر وزير الخارجية المصري، خلال استقباله كوفي عنان (8/3/2012)، من انفجار الأوضاع في سوريا. وكشف عمرو رشدي، المتحدث باسم وزارة الخارجية، أن الوزير عرض خلال لقائه عنان رؤية مصر القائمة على: « ضرورة الحفاظ بكل السبل الممكنة على وحدة سوريا الإقليمية وحل الأزمة السورية سلميا من خلال المبادرة العربية لتفادي التدخل العسكري أو تدويل الأزمة». ووفقا لبيان الوزارة، فقد حذر الوزير المصري من أن: « طبيعة سوريا الجغرافية والبشرية ستلحق ضررا هائلا بالمنطقة إذا ما تحول الوضع إلى حرب أهلية مسلحة».
في المحصلة فإن « خيارات أوباما» و « مراهنات كلينتون وأمانيها» و « قيم ماكين» و « معايير دالدار» و « تحفظات التايم» و « نفاق الروس» و « مخاوف العرب» كلها تضافرت كمنظومة سياسات مراوغة وخادعة مكنت النظام السوري من ارتكاب أفظع المجازر وأحقدها ضد البشر وسائر الكائنات الحية في سوريا. بل أن « الخيارات» الأمريكية، التي بدت كعصا بنظر البعض، لا يمكن لها أن تبلغ سقف التدخل الدولي قريبا وهي تتحدث بصيغة المستقبل، ناهيك أن تبلغ سقف تسليح الثورة، بقدر ما هوت إلى حضيض النظام الطائفي، في صيغة مبادرة، أمريكية المحتوى، قدمها كوفي عنان، مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سوريا، وأكد فيها على: (1) الحل الدبلوماسي و (2) الإغاثة الإنسانية و (3) الحوار مع النظام، معيدا في ذلك الثورة السورية إلى مربع الصفر.
أقوال المعارضة
لكنها قطعا ليست السياسات الوحيدة. فالمعارضة السورية التي بدأت تطالب بتدخل عسكري عاجل وتسليح للثورة، بعد مجزرة كرم الزيتون والعدوية، هي ذاتها التي سبق وأصرت على « سلمية الثورة»، ورفضت تسليحها بعناد عجيب، وتبعا لذلك راهنت أجزاء منها على التدخل الدولي، وأجزاء أخرى وجدت في الثورة السورية فرصة للتودد إلى « إسرائيل» والتعبير عن الحاجة لها أكثر من العمل على نصرة الثورة!!! فمن يتحمل المسؤولية عن وحشية النظام السوري، الدماء المهدورة، والأرواح البريئة، والأوصال المقطعة، والأعراض المنتهكة؟ وبأي حق يتحمل الشعب والثورة السورية مسؤولية سياسات حمقاء وقراءات بائسة وغياب تام لأية استراتيجية في حماية السكان ونصرة الثورة ومواجهة النظام؟
كنا في « عذراء الجهاد» قد ألمحنا إلى الطريقة التي تأسس بها الجيش السوري الحر، وكيف رأى فيه « المركز» عنوانا عسكريا عند اللزوم، وكيف حرك المجلس الوطني السوري لاحتوائه حتى لا يفلت من السيطرة والتحكم أو ينجح في عرقلة مساعيه في « إدارة الثورة». لذا فقد تعرضت وحدات منه للغدر والاختراق والقتل بالجملة. وانفجر الخلاف بينه وبين المجلس الوطني على خلفية التسليح والدعم المالي وإنشاء المكتب الاستشاري العسكري كي يكون المسؤول عن توجيه السلاح لمجموعات معينة دون غيرها، وبما يستجيب لمخاوف « المركز»، وكأن على الشعب السوري أن يدفع ثمن رفاهية « المركز» من دمائه. لكن الخلاف وصل إلى قلب المجلس الوطني الذي يبدو أنه منقسم على نفسه خاصة فيما يتعلق بتسليح الثورة فضلا عن غياب الشفافية والتعويل على الغرب ومعارضة تسليح الثورة.
وتناقلت وسائل الإعلام (14/3/2012) أنباء تفيد بانشقاق بعض شخصياته البارزة مثل القاضي هيثم المالح واللبرالي كمال اللبواني وناشطة حقوق الإنسان كاترين التللي. وفي حين برر المالح استقالته من المجلس بكونه: « يموج بالفوضى وبسبب غياب الوضوح بشأن ما يمكن أن ينجزه حاليا.. والمجلس لم يحقق تقدما يذكر في العمل على تسليح المعارضين»، أشار اللبواني إلى أن المجلس: « غير قادر على تمثيل تطلعات الشعب السوري في وقت يرتكب فيه نظام الأسد القمعي المزيد من الجرائم». وتواترت أنباء أخرى عن عضو بالمجلس الوطني السوري أكد فيها: « أن 80 عضوا من أعضائه البالغ عددهم 270 يعتزمون الانشقاق عنه، وربما يشكلون جماعة معارضة جديدة ستركز على تسليح مقاتلي المعارضة».
أقوال الخليج
لا شك أن الموقف السعودي من تسليح الثورة بدا أكثر قربا لرغبات الشعوب العربية من أية جهة سورية معارضة لاسيما المجلس الوطني. وبدا مثيرا حقا أن ينسحب الوفد السعودي من مؤتمر أصدقاء سوريا لعدم جدواه في تحقيق أي فارق سياسي أو عسكري في مواجهة النظام السوري. وبحسب الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية، فإن: « البيان لا يرقى إلى حجم المأساة في سوريا»، و « التركيز على المساعدات الإنسانية للسوريين لا يكفي»، بل ذهب أبعد من ذلك حين شبه النظام السوري بـ « سلطة احتلال .. و ( أن) السبيل الوحيد لحل الأزمة بسوريا هو نقل السلطة طوعًا أو كرهًا».
لكن إذا كان لقطر أجندة لبرالية صريحة للمنطقة وخاصة لدول الثورات، التي يسهل اختراقها مع النظم الجديدة، فماذا لدى السعودية كي تصب جام غضبها على النظام السوري أكثر مما فعلت أية دولة عربية أو أجنبية؟ ما بها تذهب أبعد مما ذهبت إليه المعارضة السورية؟!!! فالثابت، لدى الخاصة والعامة، أن ملف الحريات والفساد والاستبداد في السعودية أثقل من جبل أحد. بل أن الثورات والحقوق والحريات هي أبغض المطالب إلى النظام السعودي، وليس أدل على ذلك من سجونها التي تعج بعشرات الآلاف من المعتقلين في أسوأ الظروف، وبلا أية محاكمات، فضلا عن أن الدولة تعادي القريب والبعيد وتعتقل على أدنى نقد لسياساتها. فما الذي يبرر غضبها المرير تجاه النظام السوري؟
الأرجح أن الحماس السعودي لتسليح الثورة السورية يمكِّن النظام من ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. فالسعوديون مطلعون على الموقف الدولي وسياسات « المركز» في المنطقة. ويدركون أن المشروع الصفوي صار يهدد كافة دول الخليج وأنظمتها السياسية. وبالتالي فالحل مع إيران وحتى مع الروس والصينيين، لكنه، في هذه الظروف، ليس مع الأمريكيين والغرب. لذا فقد سبق لهم وحاولوا احتواء الثورة السورية عبر التفاهم مع إيران لكنهم فشلوا. فتارة بدا العراق بديلا عن سوريا لاسترضاء إيران وتارة بدت الثورة السورية كبش الفداء مقابل كف إيران يدها عن الخليج وخاصة البحرين.
إذن المعادلة المطروحة كانت أمن النظم الخليجية مقابل تلبية احتياجات إيران والحفاظ على مصالحها، حتى لو كانت الضحية بلدان عربية أخرى بما فيها الثورة السورية، إلا أن الإيرانيين رفضوا كل العروض. وتبعا لذلك بدا السعوديون، ومن ورائهم الخليجيين، يتوجسون خيفة من حقيقة نوايا الغرب الذي يبدو وكأنه يسلم المنطقة لإيران. وبالتالي يمكن التأمل بعبارة سعود الفيصل وهو يتحدث عن إسقاط نظام الأسد « طوعا أو كرها»، باعتبارها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم. وهكذا لم يعد مهما أن يتلقى السعوديون تهما من الروس بـ « دعم الإرهاب»، بل ذهبوا أبعد من ذلك إلى تشريع تسليح الثورة بغطاء ديني عبر فتوى أصدرها مفتي السعودية (11/3/2012) ، وقال فيها: « لو ثبت وصول الدعم بأمانة ودقة إلى الجيش السوري الحر فإن هذا الدعم يعتبر من الجهاد في سبيل الله .. كل ما يقوي شوكة هؤلاء ويضعف شوكة النظام السوري الدموي مطلوب شرعًا .. واجبنا نحو إخواننا في سوريا هو دعاء الله وصدق الالتجاء والاضطرار إليه مع بذل الجهد في إيصال المساعدات إليهم، والتاريخ المعاصر لم يعرف جريمة سفك دماء وانتهاك أعراض كالتي وقعت بسوريا».
هذه الفتوى التي قيدتها السعودية بـ « الأمانة» و « الدقة» حرمتها، ولمّا تزل، على « أهل الجهاد» في مشارق الأرض ومغاربها، وضنت على المسلمين بدعاء القنوت خلال الحرب على غزة إلا بشكل فردي!! لا شك أن كل قول قابل للمناقشة، لكن المجال لا يتسع للتعليق على الفتوى، التي سنتناولها في مناسبة لاحقة، بقدر ما نجد أنفسنا ملزمين بمعاينة تلك النبرة الخفية حينا والعلنية حينا آخر، فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية في الخليج، والتي وردت على ألسنة شخصيات خليجية مسؤولة.
بقطع النظر عن خلفية موقفه المناهض للإخوان المسلمين، وكذا تصريحاته بخصوص الشيخ القرضاوي، وما سببته من تداعيات سياسية؛ فقد نقلت وكالة « CNN – 11/3/2012 » الأمريكية عن الفريق ضاحي خلفان، القائد العام لشرطة دبي، عن صفحته في موقع « تويتر» تصريحا طريفا يقول فيه: « الإخوان هم الجنود السريون لأمريكا.. الذين ينفذون مخطط الفوضى»، ولا شك أن هذا القول يصعب تصنيفه في خانة التصريح المعادية للولايات المتحدة لكنه على الأقل يخفي نوعا من الشك تجاه الدور الذي تظن الإمارات الرسمية أن الولايات المتحدة تلعبه في خضم الثورات، مع أن الإمارات الشعبية ما زالت أبعد ما تكون عنها.
أما المشير الركن الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة، القائد العام لقوة دفاع البحرين، فقد كان أكثر وضوحا وصراحة في هجومه على « المركز» في تصريحات أدلى بها لصحيفة « الرأي – 11/3/2012 الكويتية. ولا بأس من بعض الاقتباسات الواردة في الصحيفة لأهميتها:
• « الغرب والأمريكيون يبحثون عن مصالحهم ولا شيء غير المصلحة، ولا بد لنا أن نتكاتف ونتحد حتى يشعر عدوك أنك قوى ويخشاك ويخافك».
• « هناك برنامج ممنهج من أيام وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس لتقسيم دول الخليج والسيطرة عليها، لذا لا بد من الوحدة الخليجية التي نادى بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز. والبحرين أول دولة لبت نداء الاتحاد الخليجي، فلابد أن تركب دول الخليج جميعها قطار الاتحاد حتى تقوى».
• « هناك منظمات وأحزاب في الخارج تدعم هذا التوجه وتدفع أموالاً لكي تخرب وتدمر وتغير نظام الحكم في البحرين ودول الخليج العربية، ونحن على دراية بهذه المنظمات والدول».
• « هناك دول تغدق الأموال على من يدعون أنهم معارضة لكي يقلبوا نظام الحكم، وهؤلاء ليسوا معارضة كما تصورهم بعض وسائل الإعلام، التي تريد الفتنة وعدم الاستقرار، وليس لهم دخل بما يسمى (الربيع العربي) وهؤلاء مأجورون لأجندات خارجية معادية».
إذن الحماس السعودي لتسليح الثورة السورية قد لا يخرج عن مساق الخشية من كون الولايات المتحدة ربما لم تعد آمنة بنظر أنظمة الخليج. فإذا بقي النظام السوري على حاله متمتعا بصفة « نحن الأقوى على الأرض»، كما يقول الرئيس السوري بشار الأسد، فلا شك أن المخاوف الخليجية سيكون لها ما يبررها في ضوء خروج المشروع الصفوي من عنق الزجاجة الذي تضعه فيه الثورة السورية. وبالتالي فالمنطق السياسي يقول بأن المراهنة على هذه الأخيرة سيغدو أجدى من الاطمئنان إلى « المركز».
أخيرا
واضح أن تدويل الثورة السورية ألحق بها أضرارا فادحة. ومع ذلك فقد ظل سؤال « ما البديل»؟ السؤال، الوحيد والأهم، المطروح من قبل جميع الأطراف المتضررة من الثورة السورية. إذ أن كل طرف يسعى لتأمين مصالحه، وكل مصلحة لأي طرف هي بالمحصلة على حساب الثورة. ورغم عجز المعارضة وما خلفته مواقفها وقراءتها البائسة للحدث، وكذا مراهناتها وتحالفاتها وتطفلها أو تسلقها من مرارة في نفوس السوريين وأشقائهم إلا أن ما حصدته من القوة والشموخ والثبات لا يقل عما حصدته المعارضة من خزي!!! فقد بدأت الثورة بنقطة احتجاج اندلعت أولى شراراتها في سوق الحريقة بالعاصمة دمشق ثم انفجرت في درعا إلى أن تجاوزت 600 نقطة احتجاج في جميع أنحاء سوريا. هذه الملحمة الأسطورية لأعزل شعب إلا من دمائه وأشلائه لا يمكن أن يمثلها مشبوهون ومنافقون وعملاء ومتخاذلون .. فهي ضمير الأمة .. ولأنها كذلك فهي بحاجة إلى أصحاب العقائد والضمائر وليس لأصحاب الأهواء والمصالح ... ولا ريب أن هامش النصرة متاح .. وبلا شروط!!!