افي سنة 463 هجرية قرر الإمبراطور رومانوس الرابع أن يقود حملة صليبية جرارة يجتث بها العالم الإسلامي كله وإسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد،




وحشد من أجل ذلك قرابة النصف مليون مقاتل من شتى الأجناس، روم وبلغار وروس وألبان وبيزنطيين،




ومن شدة غروره وطيشه قام بتوزيع المدن الإسلامية التي ظن أنه سيحتلها بأبسط صورة علي مساعديه وقواده ليكونا ولاة عليها،




وكان سلطان السلاجقة ألب أرسلان في ذلك الوقت في قلة من جنوده 15 ألف جندي فقط فأرسل إلي رومانوس يعرض عليه الهدنة،




فرد رومانوس بكل غطرسة وصلف :


لا هدنة إلا بالري، أي في عاصمة السلاجقة،




فحمى المسلمون لذلك وقرروا خوض المعركة علي الرغم من التفاوت المهول بين الفريقين،



وكانت معركة ملاذكرد الخالدة التي سطرها التاريخ بأعظم كلمات، وانتصر المسلمون ووقع رومانوس المتغطرس أسيراً بيد المسلمين،




فأحضر بين يدي السلطان ألب أرسلان الذي عامله بما يليق بغطرسته، وضربه بمقرعة في يده ثلاث قرعات على وجهه تأديباُ له،



ثم ألزموه بعد ذلك أن ينحني في اتجاه بغداد حيث مقر الخليفة العباسي، ويقبل الأرض ثلاث مرات، تحقيراً له علي نيته الخبيثة في إبادة العالم الإسلامي،



ثم أطلقه السلطان ألب أرسلان بعد ذلك،




فلما عاد إلي القسطنطينية رفض البيزنطيون أن يولوه عليهم



من شدة الإهانة والإذلال الذي تعرض له علي يد المسلمين .






غطرسة بلا حدود




الكيان الصهيوني كيان طفيلي نشأ بالتسلق علي أكتاف الآخرين، ودولته المزعومة علي أرض فلسطين دولة مستوردة بالكامل من الخارج، فالشعب أخلاط و أشتات وأوباش تم حشرهم من أوروبا بعد أن كانوا مثل الورم السرطاني داخل المجتمعات الأوروبية،




نفت أوروبا قمامتها وأدواءها عن بلادها، ورمت بها بلاد الإسلام، والصناعة والتجارة والسلاح وكل مرافق الحياة مستوردة من الخارج،


فالكيان الصهيوني كله مستورد،


شعباً وأرضاً ومجتمعاً .




ورغم هذه الطفيلية الخبيثة في أصل قيام هذا الكيان إلا أن الغطرسة والصلف والغرور هو السمة العامة الغالبة علي كل هذا الكيان، شعباً وقيادة،




فالساسة الصهاينة علي مر السنين كانوا عنواناً للغطرسة والتكبر، وليست غطرسة القوة ولكنها غطرسة القزم الذي يركب على كتف العملاق، والذي يستمد منه القوة والتهديد لكل من يحاول الاقتراب منه .




هذه الغطرسة والتكبر والصلف أخذت مع الأيام تزداد يوماً بعد يوم بسبب التراجع العربي والإسلامي الكبير في معركة الصراع على أرض فلسطين،



خاصة بعد توقيع معاهدة كامب دايفيد التي أبطلت الكثير من مشاريع المقاومة وأهدرت معها دماء مئات ألآلاف من الشهداء منذ بداية هذا الصراع،



حيث وجد الصهاينة أنفسهم متفوقين على خصومهم العرب والمسلمين في شتى المجالات العلمية والتقنية والاستراتيجية، ولم يكن تفوق العرب والمسلمين إلا بالنواحي المعنوية والإيمانية،



وهذه النواحي ضربت في مقتل علي جبهة المفاوضات والمعاهدات التي دشنتها معاهدة كامب دايفيد المشئومة، وما تلاها من اتفاقيات أوسلو وغيرها، وبالتالي أصبح ميدان التفوق بأكمله للطرف الصهيوني الذي راح يعربد بلا أدني رادع أو ممانع .





كيان لا يعرف الاعتذار




اشتهر عن الكيان الصهيوني الغاصب بأنه دولة لا تعرف الاعتذار، أو تقدم علي أي خطوة يشم منها رائحة الاعتذار والاعتراف بالخطأ،





بل أن الساسة الصهاينة في شتى مجالاتهم يتم تدريبهم علي عدم الاعتذار لأي طرف خارجي مهما كان الثمن،



فهذا أمر نابع من عقيدة الاصطفاء الإلهي لليهود الذين يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ومهما كانت الجرائم الصهيونية فإن لها ما يبررها عند اليهود الصهاينة .





فعندما وقعت مجازر صبرا وشاتيلا الوحشية بلبنان، وذبح ألآلاف الفلسطينيين في المخيمات وأغلبهم من النساء والأطفال، وثار الرأي العالمي للجريمة البشعة، رد الهالك مناحم بيجن رئيس الوزراء الصهيوني بكل صلف وغطرسة تفوق غطرسة رومانوس الرابع واصفاً القتلى الفلسطينيين بقوله :



أنهم حيوانات تمشي علي رجلين ولا تستحق الحياة،





وعندما وقعت مجزرة قانا الشهيرة وقتل أكثر من مائة مدني أكثرهم من الأطفال، في مشاهد مروعة هزت مشاعر الناس وحركت دموعهم في كل مكان،




جاء رد المأفون بيريز بأن حمّل الضحايا المسئولية لأنهم رفضوا مغادرة مساكنهم حتى يحتلها الجيش الصهيوني،




وغير ذلك من المواقف كثيرة،


ذلك لأنه كيان مملوء بالغطرسة والصلف،


لا تعرف قيادته معنى كلمة الاعتذار .





أبعاد إهانة السفير




ظن الساسة الصهاينة أن من الشيء اليسير والمعتاد أن يتم إذلال أي شخصية عربية، والتعامل معها باستهانة




طالما العرب علي درب التيه والضياع، تحت الشعار الصهيوني لا كرامة لعربي أو مسلم،



ومن ثم أقدم وزير الخارجية البلطجي" ليبرمان " علي الإيعاز لأحد مساعديه وهو" داني أيالون" أن يهين ويذل كرامة السفير التركي" أوغور تشليك كول "




علي خلفية عرض المسلسل التركي الأشهر " وادي الذئاب " والذي تعرض في بعض حلقاته للجرائم الصهيونية في فلسطين،




وهو الأمر الذي أثار الغطرسة الصهيونية، فأرادت تأديب الأتراك مثلما تفعل مع أي مسئول عربي وغيره .




طبعاً لم يكن عرض المسلسل وحده الدافع لهذه الخطوة التي ندم عليها الصهاينة بعد ذلك،



ولكن سلسلة المواقف والخطوات وردود الأفعال التركية علي عدوان الصهاينة الأخير علي غزة، والتي أظهرت القوة التركية ممزوجة بالعزة الإسلامية مترجمة في خطوات عملية جعلت الصهاينة يتميزون غيظاً علي أردوجان ورفاقه،





آخر هذه المواقف تصريحات أردوجان في 11 يناير علي هامش اجتماعه مع سعد الحريري والتي وجه فيها انتقاداً حاداً للصهاينة بسبب جرائمهم في فلسطين وبسبب رفضهم تطبيق قرارات الأمم المتحدة،




مع تهديد واضح وصريح بأن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الموقف الإسرائيلي المتعنت مع الفلسطينيين والمجتمع الدولي،




مع إدراج مشكلة الملف النووي الإيراني في الكلام مع عقد مقارنة بينه وبين ترسانة السلاح النووي الإسرائيلي الذي لا يجرؤ أحد علي الكلام عنها .




فجاء الرد الإسرائيلي علي تصريحات أردوجان القوية علي نفس مستوي القوة والجراءة،


إذ وصفت الخارجية الإسرائيلية تصريحاته بأنها


" الانفلات غير المكبوح لأردوجان "،



وقال بيان الخارجية الذي صاغه ووقعه ليبرمان الأحمق :


أن الأتراك هم آخر من يمكنه توجيه موعظة أخلاقية لإسرائيل،




في حين عبر نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في 12 يناير عن قلق إسرائيل البالغ من التقارب التركي مع إيران وسوريا،




معتبراً هذا التقارب يعرض العلاقات التركية الإسرائيلية للخطر،



وبالفعل لم تمض سوي ساعات علي تصريحات أردوجان النارية حتى تم استدعاء السفير التركي وإهانته بالصورة التي نقلتها وسائل الإعلام



والتي حرص الصهاينة علي أن تكون حاضرة وناقلة للحدث،


حتى تكون الإهانة موثقة بالصوت والصورة .





التأديب على الطريقة التركية




كان من الممكن أن يتجاوز السفير التركي الموقف، ولا يصعد الخبر إلي حكومته، أو يبلعها كما يبلعها الكثيرون ممن يعلمون أن التصعيد لن يفيد،



ولكن السفير التركي الذي يعلم أن ورائه حكومة قوية، وقيادة حكيمة، ودبلوماسية ماهرة،



خرج للصحف الإسرائيلية بتصريح قوي وحازم بأنه لم يتعرض لمثل هذه الإهانة طوال ثلاثين عاماً، وهي مدة عمله بالسلك الدبلوماسي،




وبسرعة تكهربت الأجواء، وتم استدعاء السفير الإسرائيلي بأنقرة ومعاملته بالمثل،




و لم تكتف تركيا بذلك فخرجت الحكومة التركية علي لسان رئيس وزرائها أردوجان تارة، والرئيس عبد الله جول تارة آخري منددة ومهددة للجانب الإسرائيلي،




مع التأكيد علي ضرورة الإعتذار الرسمي علي الحادث .





تصريحات أردوجان كان تحمل قدراً كبيراً من الدبلوماسية الحكيمة والحزم القوي، والذكاء الشديد،


إذ لم ينس أردوجان في ثنايا كلامه


أن ينبه اليهود علي إحسان الدولة العثمانية لهم علي مر العصور،


عندما أوت الدولة العثمانية اليهود المطردين من أوروبا


أيام السلطان الكبير سليمان القانوني،



وتلك النقطة تحديداً من أكثر ما يغيظ اليهود ويذلهم،



وفي نفس الوقت أظهر أردوجان الميول التركية لأيام دولة الخلافة العثمانية ومجدها،



وهي الميول التي باتت تقلق ليس إسرائيل وحدها،


بل كل أعداء العالم الإسلامي بأسره .





أما تصريحات عبد الله جول فجاءت برداً وسلاماً علي كل المستضعفين والمقهورين،



إذ ذكرتهم بأيام عزة المعتصم ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قـطـز والظاهر بيبرس ومراد الثاني ومحمد الفاتح، وغيرهم كثير ممن استعلي بدينه وأمته،





جاءت تصريحات جول حاسمة قاطعة تقطع الطريق علي المحاولات الإسرائيلية للتنصل من الحادث والالتفاف حول الاعتذار لعدم تقديمه بصورة رسمية، فلقد اعتذر أيالون عن جريمته،




وقدم العديد من أعضاء الكنيست اعتذارهم للسفير التركي في زيارة خاصة للسفارة التركية بتل أبيب،




ولكن عبد الله جول لم يرض أو يقنع


إلا بالاعتذار الرسمي


الذي تقدمه حكومة نتنياهو مكتوباً،


وهو ما لم تفعله أي حكومة إسرائيلية من قبل،





والأشد من ذلك أن الرئيس جول


أمهل إسرائيل 48 ساعة فقط لتقديم الاعتذار،



وإلا سيكون الرد التركي أشد مما يتخيل الصهاينة .




ولأول مرة في تاريخ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ سنة 1948 تقدم الحكومة الإسرائيلية اعتذاراً رسمياً مكتوباً لتركيا،


وذلك قبل انتهاء المهلة التركية،




بعد أن تلقت صفعة مؤلمة علي وجه غطرستها وصلفها،


لم تنلها من أي طرف خارجي،


ولا من أمريكا نفسها .






سر الإذعان الإسرائيلي




المرارة التي تجرعتها إسرائيل بالأمس وهي تقدم اعتذارها الرسمي العلني للجانب التركي كان وراءها إحساس إسرائيلي متصاعد بأن العلاقات مع تركيا تسير علي طريق الجمود ثم القطع،



وهو ما يعنى الكثير من المعضلات للجانب الإسرائيلي في المنطقة،



أبرزها خلخلة ميزان القوى في المنطقة بانحياز تركيا صاحبة الثقل التاريخي والعسكري والاستراتيجي لمعسكر أعداء إسرائيل


[ إن كان موجوداً في الأساس


باستثناء حماس وحركات المقاومة الشريفة في فلسطين ]



مما سينهي حالة التفوق الميداني لإسرائيل والذي استمر لعصور،



كما أن فقدان الحليف التركي سيؤدي لتوتر أو قطع العلاقات التركية الأمريكية،



وهي العلاقات التي يعتمد عليها الأمريكان كثيراً في تكريس مخططاتهم في المنطقة والقلب الأسيوي،




كما أن قطع العلاقات سيؤدي حتماً لفشل أي مخططات تجاه إيران،



وهو الكارت الدعائي الذي تلعب به الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية هذه الأيام،




ناهيك عن علاقات تجارية ومادية تبلغ الأربعة مليارات


لا تقوي خزانة عباد الأموال وأساتذة الربا الفاحش علي فقدانها




في النهاية فأن هذا الحادث أثبت بما لا يدع مجالاً للشك تنامي الدور التركي وقوته،



وانحيازه لقضايا الأمة العربية والإسلامية،


وأظهرت أن أردوجان ورفاقه ليسوا مجرد ظواهر كلامية،


ومن يدري لعل الخلافة العثمانية تعود ممن جديد


ولكن في ثوب عصري اسمه حزب العدالة والتنمية .


المصدر: مفكرة الإسلام