توحيد أهل القبلة
ظلت وحدة الصف المسلم وتوحيد جهود العاملين في حقل الدعوة الإسلامية هماً يؤرق كل مسلم حادب على مصلحة دينه ورفعة أمته.. والتي تجاوز عددها المليار ونصف المليار والمنتشرة في كل مساحات الأرض اليوم، وهو يرى بأم عينيه توحد أعداء الأمة المسلمة لاستئصال شأفة المسلمين رغم عظم ما يفرق بينهم، وفي الوقت ذاته يتفرق المسلمون لأتفه الأسباب، ويصل الأمر بينهم في بعض الأحيان لحد الاقتتال! في الوقت الذي يدعوهم دينهم وكتابهم ورسولهم إلى التوحد والاعتصام بحبل الله المتين.
وتأتي قضية وحدة الصف المسلم كقضية ملحة في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم. فقر وجهل وتخلف وخلافات في الداخل وغزو فكري وثقافي بل وعسكري من الخارج مما يقتضي من علماء المسلمين وقادتهم النظر في هذه القضية باعتبارها القضية الأولى في تحقيق نهضة المسلمين ورفعة الأمة المسلمة لريادة العالم من جديد.
إن المتدبر في شرائع الإسلام وأحكامه يرى رعايتها لكيان الأمة ووحدتها، والقرآن يربط بين وحدة الأمة واعتصامها من جهة وبين رحمة الله بالأمة من جهة أخرى، وقد جعل الله عز وجل الأمة محلاً لنزول رحمة الله، وإن الأمة المتفرقة المتدبرة والمتنازعة مرفوع عنها الرحمة قال تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏أَجْمَعِينَ) قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ‏) وعليه فإن المؤمنين هم مرحومون يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (والجماعة رحمة والفرقة عذاب). وما ذكرنا من أدلة تبين أن الرحمة تتنزل على أهل الاجتماع والإلفة، خلافاً لمن زعم أن اختلاف الأمة فيه الرحمة استناداً إلى حديث لم يصح (اختلاف أمتي رحمة) يقول فيه الإمام ابن حزم:
(وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً. هذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط. وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق، والنبي عليه الصلاة والسلام برئ من أهل الفرقة والشقاء (إن الذين فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعاً لستَ منهم في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى اللهِ ثم ينبئُهم بما كانوا يفعلون) ذلك لأن الفرقة موجبة للفشل، وقد ذكر الله الفشل في القرآن في أربعة مواقع مقروناً بالنزاع من ذلك قوله تعالى (لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وأصبروا)
إن الشقاق والنزاع هو سبب اندثار الأمم السابقة وذهاب ريحها وعذاب الله بها.. قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ولقد راعت شرائع الإسلام أمر الوحدة خير ما رعاية، وأمرت بالاعتصام، ونهت عن الفرقة قال تعالى في كتابه العزيز (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وحرمت قتال المسلم لأخيه وجعلت القاتل والمقتول في النار بل وحرمت دم المسلم وماله وعرضه، وقطع الطريق أمام أي سبب من أسباب النزاع، كما أوجبت عيادته إذا مرض، وغوثه إذا استغاث، وتشييعه إذا مات، وحسن معاملته في كل حال قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ ‏لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) والآية عمدة في سد كل مدخلات الشيطان لتفرقة الأمة والتحريش بينهم.
إن حكمة الآية القرآنية السابقة هي نبراس في سبيل الدعوة إلى الله وتوحيد أهل القبلة؟
نعم إذا التزم المسلم بهذه الآية الكريمة لاسيما العاملين في حقل الدعوة فأبدلوا التشهير بالنصح والإغلاظ بالحكمة والتجريم والتفسق والتبديع بالأعذار والتأويل، فإن وحدة الأمة لا بد حاصلة، واعتصامها وإلفتها لا بد واقعة، وقد حرمت شرائع الإسلام الفحش والغيبة والنميمة، بل وحرمت ما هو أقل من ذلك كالهمز واللمز. كل ذلك رعاية وتمكيناً للوحدة وحراسة لأصلها العظيم.
هنالك العديد من التحصينات المنيعة في سبيل تمكين الوحدة الإسلامية بمقتضى الشريعة الإسلامية فما هو السبيل لتحقيقها على أرض الواقع؟
إن الناظر لشرائع الإسلام يجد ما يزيد على مائة حكم شرعي لحراسة وحدة الأمة وبيان السبل الموصلة إليها في نظام أخلاقي وقائي يدفع دواعي الشقاق قبل وقوعها، بل إن نظام المسلم الاجتماعي يهدف لتقوية أواصر الإخاء، وتعظيم معاني المحبة والولاء بين المسلمين، وقطع الطرق المؤدية إلى الفرقة والنزاع، ومن عظيم رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الوحدة ما رواه ابن ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: "كان الناس إذا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فعسكر تفرقوا عنه في الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان).
قال: فكانوا بعد ذلك إذا نزلوا انضم بعضهم إلى بعض حتى أنك لتقول لو بسطت عليهم كساء لعمهم أو نحو ذلك، قال الإمام الشافعي رحمه الله (لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تفرق الأبدان فكيف بتفرق المذاهب والأديان).
اذافالوحدة الإسلامية أمل ظلت تنشده جماعات المسلمين وتعظم الدعوة إليها في المحطات التي تتعرض الأمة فيها إلى الاستهداف من أعدائها، ولم يمر بالأمة منذ مبعث محمد عليه الصلاة والسلام محنة على نحو ما هو واقع مما يستوجب رص الصفوف وتوحيد الجهود لمواجهة هذه التحديات حفاظاً على الهوية وحراسة للدين متجاوزين العقبات التي تقف دون تحقيق هذا المقصد العظيم من جمع كلمة المسلمين والاعتصام بحبل الله العظيم، ولقد ظل الاختلاف حول مفهوم طبيعة الوحدة الفريضة وانعدام الثقة خوفاً من الاحتواء والتذويب يقصف بالجهود الخيرة التي يتداعى إليها الناس من أجل توحيد أهل القبلة إصلاحاً للذات وترقية للمجتمع المسلم ومواجهة المخاطر وحملاً للدعوة المحمدية إلى الناس كافة تحقيقاً لعالمية الرسالة وابتغاء لسعادة البشرية في ظل الدمار الذي تشده.... دمار التصورات والقيم... ودمار الأخلاق والنظم... بل ودمار الإنسان نفسه في عالم أشبه بالغابة.... والأمة التي تملك منهج الخلاص من هذا التيه هي مستضعفة وممزقة كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.
ولقد شهدت تجارب الدعوة لوحدة الأمة حالة من الاستقطاب الجاد إذ تحضر كل جماعة ورقة حول رؤيتها للوحدة تتضمن اختياراتها المذهبية وترجيحاتها الفقهية باعتبارها القاعدة التي على أساسها يمن أن تتوحد ولكن إذا صرتم تؤمنون بما نؤمن به وتتبنون ما نتبناه وهنا يجب التفريق بين جماعة المسلمين وجماعة من المسلمين فالأولى تضم المسلم السابق بالخيرات والمقتصد والظالم لنفسه وصاحب البدعة والمتلبس بكفر عن تأويل سائغ كل هؤلاء هم جزء من جماعة المسلمين لهم قدر من المحبة والولاء يتفاوت بتفاوت طاعتهم لله قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ ‏سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ). والآية تبين لطف الله في نسبة العصاة إليه وإدخالهم في زمرة عباده بهذا المعنى العام للأمة المسلمة يجب أن تتم الدعوة إلى الوحدة ووضوح هذا المعنى يجعل الحد الأدنى للولاء والمناصرة واضحاً إذ هو يصح به إسلام المرء فكل مسلم تجب موالاته وتحرم البراءة منه واجتماعنا إذا كان باعتبار كوننا مسلمين فقد تجاوز الدعوة إليه خلافتنا المذهبية واختياراتنا الفقهية.
هناك سؤال مهم يطرح نفسه كيف يتم يا ترى تجاوز الخلافات المذهبية حتى نمهد الطريق للحوار والاتفاق حول القضايا ذات الأهمية؟
إن استحضار هذا الأمر يبقى مهماً في تجاوز كثير من عقبات الوحدة لا نعني استحضاراً نظرياً إنما أدرت استصحابه عملياً ذلك لأن المتحاورين تحت مظلة الحوار الإسلامي إذا استحضر كل واحد منهم أنه إنما يتحاور مع مسلمين لعلم أن هناك قدراً مستحقاً من الولاء والمناصرة باعتبار كونهم مسلمين. هذا المعنى في حد ذاته يوجد قاعدة مشتركة لا يتم استثمارها في مشاريع الدعوة وحقول العمل فاستحضار هذا المعنى في حد ذاته يجعل هنالك حداً أدنى قبل الدخول يسمح بمفردة في رسم مساحة للتحرك المشترك والتنسيق الدعوي ولو كانت هذه المساحة في مواجهة الإلحاد والتنصير.
فالدعوة إلى وحدة الأمة لا تعني أن تصدر الأمة عن مذهب فقهي واحد فهي وحدة كيان وليست وحدة مذهب، إنها وحدة أمة توجب قدراً من الولاء والمناصرة وليست وحدة آراء فقهية والمقصود من لفت النظر إلى مفهوم الاجتماع على أساس مفهوم الأمة بيان أن هذه الدعوة لا تستثني إلا كافراً لا صلة له بالإسلام وأهله.
إن المدخل الصحيح لجميع الدعوات التي تخص المسلمين على الوحدة هو تحديد طبيعة هذه الوحدة ومفهومها هل هي وحدة العاملين في الحقل الدعوي بصورة تخرج الجالسين على الرصيف من أبناء المسلمين؟ هل هي دعوة لوحدة أهل السنة عند من يراهم من غير أهل السنة؟ أم هي دعوة لوحدة المسلمين باعتبار كونهم مسلمين والوحدة الفريضة المذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أتت بالمفهوم الشامل الأخير أي باعتبار كونهم مسلمين فقط. وهذه هي الوحدة التي طبقها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تكن وحدته على أساس كونهم أنصاراً أو مهاجرين أو ما بعد الفتح وإن كانت أسماء شرعية وردت على لسان الشرع إلا أن التداعي للوحدة على أساسها بصورة تخرج الآخرين عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرباً من ضروب الجاهلية حين قال: (أدعوى الجاهلية) قالها النبي صلى الله عليه وسلم عندما تشاجر أنصاري ومهاجر فقال أحدهم يا للمهاجرين، وقال الآن يا للأنصار والحديث بين أنه قد تكون للمسلم مظلته الخاصة وانتماءه الخاص واختياره المذهبي وترجيحه الفقهي إلا أنه مأمور أن يكون مع المسلمين وكل المسلمين أمة واحدة ليست على المستوى النظري فحسب كلما نشاهده الآن ولكن عن المستوى العملي مناصرة وولاءً وتعاوناً على البر والتقوى والأمر بهذه الصورة ليس مندوباً ولا ضرباً من ضروب الكمال بل هو الفريضة، قال تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ‏)

إن تحرير الحد الأدنى للولاء والمناصرة والإجماع وهو ما يصح به أصل الإيمان ذلك لأن الإيمان أصل وواجب ومستحب كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية فما يصح به إسلام المرء كافياً في إيجاد قدر من الولاء والمناصرة. إقرارنا بهذه ونحن نسعى لأمر الوحدة يجعل من هدفنا هذا خلق تفاهمات تزيد من مساحة التنسيق والعمل المشترك التي يجب أن تكون موجودة أصلاً باعتبار كوننا مسلمين.

فالحد الأدنى والمناصرة هو أصل الإيمان والذي يعني صحة إسلام العبد لترك ما فعله كفراً وفعل ما تركه فر في ضبط تعريف لأصل الإيمان وأن من تلبس بكفر مع وجود مانع وتأويل سائغ بوضعه اللغوي أو الشرعي فهو مأجور على اجتهاده فمن تلبس بعمل هو كفر في نظر بعض طرائق المسلمين عن تأويل سائغ لا يخرجه هذا عن أصل الإيمان وهذا المفهوم إذا تقرر يستوجب نشر ثقافة الأعذار بالتأويل. ‏