الحمد لله خَلَقَ كلَّ شيء فَقَدَّره تقديرًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وألتجئُ إليه مِنْ يوم كان شرُّه مستطيرًا، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له القائل: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.

وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبْدُه ورسولُه، بعثه ربُّه بَيْنَ يَدَيِ السَّاعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتَّابعين بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد؛

فإنَّ مِنْ مواطن التَّمعُّن والتَّفكُّر، ومِنْ وقفات التَّأمُّل والتَّدبُّر في انقضاء عامٍ واستقبال آخر، وفي مضيِّ زمن ومجيء خلفه؛ تغيُّر الأحوال وتقلُّبها، وسرعة مرور الأيَّام وزوالها، فها نحن الآن بيْنَ ميِّتٍ قد انقضى أجله، وبين حيٍّ يُسايره عمله، وبين مُنْضَمٍّ إلى قوافل التائبين، وبين مسوِّفٍ رَكَنَ إلى صفِّ المتخلِّفين، وبين أطفال قد ناهزوا سنَّ الرُّشد، وبين شباب قد ودَّعوا ربيع العمر، وبين معافى في الصِّحَّة والأهل، وبين مبتلى في عافيته ينتظر الأملَ أو الأجلَ.

تمرُّ بنا الأيَّام تترى وإنَّما نساق إلى الآجال والعينُ تَنْظُرُ

فلا عائدٌ ذاك الشَّباب الَّذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدِّر

وبين كلِّ ذلك وذاك دروسٌ يجب أن تُحفظ وتُلقَّن، وعِبَرٌ يجب أن تُسجَّل وتدوَّن؛ لتظهرَ للمرء حقارةُ هذه الدُّنيا، وأنَّ عمرها مخترم، وأمَلها لاشكَّ مقتحم: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْل وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْن وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾.

فحريٌّ بنا ـ ونحن نودِّع عامًا ماضيًا ونستقبل عامًا آتيًا ـ أن نفتح أمامنا صحيفةَ أعمالنا، ونتأمَّل في سطورها، وننظر في رصيد حسابنا، ولنسأل أنفسنا عن عامِنا هذا كيف قضيناه؟ ولنفتِّش كتابَ أعمالنا كيف أمليناه؟ فإن كان خيرًا؛ حمدنا الله وشكرناه، وإن كان غير ذلك؛ تُبنا إلى الله واستغفرناه؛ لأنَّ هذا النَّظر كفيلٌ بأن يوقظنا من رقدتنا، ويمحو عنَّا آثار غفلتنا، ويدلَّنا على مواضع النَّقص والضّعف والتَّقصير؛ عسى نستدرك ما فاتنا من العمر بالاستغفار والتَّوبة، ونستقبل ما بقي من العمر بالعمل الصَّالح والأوبة.

فيجب على المسلم إنْ كان عاقلاً ـ وهو يودِّع عامًا ويستقبل آخر ـ أن يقف مع نفسه وقفاتٍ يذكِّرها بمصيرٍ محتوم، تضيق فيه اللَّحظات، وتسكب عنده العبرات، وأنَّ كلَّ ما في هذه الدُّنيا من أطوار وتقلُّبات، ومواقف ومحطَّات إلَّا وهو يُذَكِّر بالآخرة وأهوالها، ففي مرضِ العبد ما يذكِّره بذلك اليوم المشهود، وفي فراق الأهل والخلاَّن والأقارب والجيران ما يجعله يدرك أنَّ العمر ـ وإن طال ـ فهو محدود ومعدود، وفي سفر العبد وانتقاله من وطن إلى آخر ومن سكنى إلى أخرى ما يذكِّره بذلك السَّفر الشَّاقِّ الطَّويل، حيث لا يُغني ولد عن والد ولا والد عن مولود، وما هذه الدُّنيا بزخارفها وملذَّاتها وبآمالها وآلامها عند معاينة الأجل وانقطاع الأمل إلاَّ كما قال القائل:

نزلنا ها هنا ثمَّ ارتحلنا كذا الدُّنيا نُزُولٌ وارتحال

يظنُّ المرء في الدُّنيا خلودًا خلود المرء في الدُّنيا محال

صحيحٌ أنَّه ما منَّا أحدٌ إلَّا وهو مفرِّط ومقصِّر في أداء ما عليه من الحقوق والواجبات، بل وأحيانا مضيِّع لبعض الأوامر، ومقترف لشيء من النَّواهي والمحرَّمات، ولو لم يكن من التَّفريط والتَّقصير إلاَّ نسيان شكر النِّعم والتَّحدُّث بها لكفى المرء محاسبة لنفسه وإيلامًا لها، ولكن كما قال ابن القيِّم رحمه الله: «لابدَّ مِنْ سنة الغَفْلَة ورقاد الهوى، ولكن كنْ خفيفَ النَّوم، فحرَّاس البلد يصيحون: دنَا الصُّبحُ» [الفوائد: ص55].

فهلاَّ حاسبتَ نفسك على هذه الصَّلاة الَّتي أوجبها الله عليك، هل أدَّيتها في أوقاتها المشروعة؟ وهل حافظتَ فيها على خشوعها وأدَّيتها مع جماعة المسلمين في بيوت الله من فجرها إلى عشاءها؟ أم أنَّك فرَّطت في بعض ذلك فعسى أن تصِّحح خطأك وتتوب من ذنبك وتعود إلى رشدك.

وهلاَّ حاسبتَ نفسك على طلب العلم، ما هو حظُّك منه؟ هل ازددت علمًا وبصيرةً بمسائل الدِّين وعلوم الشَّريعة فقرأت كتابًا نافعًا، أو حضرت مجلسَ علمٍ أو أدب، أو استنصحت عالمًا أو لازمت حلقة ذِكْرٍ، أم هو جريٌ وراء الدُّنيا الفانية واعتذارٌ بكثرة الأشغال وضيق الأوقات؟!

وهلاَّ حاسبتَ نفسك على أموالك وموارد رزقك الَّتي تُطعم منها أهلك وذويك؟ هل هو من الحلال الطَّيِّب غير المشوب بالحرام والشُّبهات؟ لا من ربا ولا من رشوة ولا من غشٍّ ولا من تطفيف ولا تحايل على أخذ أموال النَّاس والدَّولة بالكذب والخيانة والتَّزوير؟!

وهلاَّ حاسبتَ نفسك على حقوقك وواجباتك اتّجاه غيرك؛ من الزَّوجة والأولاد وذوي الأرحام والجيران؛ فلم تهضم حقوقهم، ولم تنلهم بأذى، ولم تكلِّفهم شططًا؟ هل واسيتهم بنصحك، وواصلتهم بمعروفك، وأكرمتهم بجميلك؟ وما إلى ذلك من أمور المحاسبة، وقد قال الله تعالى في محكم التَّنزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.

قال ابن قدامة رحمه الله: «وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد مضيِّ العمل».

ولذلك قال عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا».

وعن الحسن رحمه الله قال: «المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسَه»، وقرأ رحمه الله يومًا قول الله جلَّ وعزَّ: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد﴾، فقال: «يا ابن آدم! بُسطت لك صحيفتك، وَوُكلَ بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك، فأمَّا الَّذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمَّا الَّذي عن يسارك فيحفظ سيِّئاتك؛ فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتَّى إذا متَّ طُوِيَتْ صحيفتُك وجُعلت في عنقك معك في قبرك، حتَّى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا، ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾»، ثمَّ قال: «قد عدل ـ والله ـ عليك من جعلك حسيبَ نفسك».

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (5/52): «هذا من حسن كلام الحسن رحمه الله».

هذا؛ وإذا كان كلُّ فردٍ منَّا مطالبًا بمحاسبة نفسه ومراجعة حصيلة أعماله نهاية كلِّ عام وبداية عام آخر، فكذلك الأمَّة بجماعاتها الصَّغيرة والكبيرة، في الأحياء والمدن والقرى، وفي المؤسَّسات التَّعليميَّة والمحاضِن التَّربويَّة، وفي المساجد والمدارس القرآنيَّة، والهيئات العلميَّة وجماعات العلماء والدُّعاة، كلٌّ يجب أن يُراجع مواطن الضَّعف والخلل في مسيرته، ماذا قدَّم لأجياله ورعاياه من الحماية والتَّحصين؟ ماذا قدَّم لدينه مِنْ عزٍّ ونصر وتمكين؟ هل هناك من تنبَّه لمخطَّطات الأعداء ومكائدهم؛ فعمل على ردِّها وإحباطها؟ هل هناك من أدرك الخطر الحادق بهذه الأمَّة من كلِّ جهة مستهدفًا دينها وأصالتها وهويَّتها؛ فقام يرابض على حدودها ويحرسها بأعين لا تنام، وقلوب لا تغفل، وعزائم لا تلين؟

ما مِنْ شكٍّ أنَّ كلَّ واحد منَّا يتمنَّى أن يزول هذا الهوان المضروب على أمَّتنا، وهذه النَّكبات المتوالية عليها، ولكن الأماني وحدها لا تنفع، والدَّعاوى والشِّعارات لا تُجدي ولا تشفع.

كلُّ واحد منَّا يؤمِّل أن يكون الله له حافظًا ناصرًا، ومعينًا مؤيِّدًا، وهاديًا مسدِّدًا، فهل كان هو لله عبدًا شاكرًا، وعابدًا ذاكرًا، ومستقيمًا وعلى نهجه سائرًا؟!

إنَّ القول لدى الله لا يبدَّل، فالجزاء من جنس العمل: ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾، وإن تحفظوه يحفظكم.

ومن وقفات المحاسبة ـ الَّتي لابدَّ منها ـ: محاسبة الدُّعاة لأنفسهم، ماذا قدَّموا للدَّعوة الَّتي عمَّت كلَّ قُطْرٍ، ووصلت إلى كلِّ مصر، واعتنقها كلُّ ذي فطرة سويَّة، ومذعنٍ للحقِّ عن بصيرة ورويَّة، هل حافظوا على لَمِّ شمل أنصارها ومحبِّيها؟! وغَذَّوْا فيهم روحَ الألفة والأخوَّة والنُّصرة؟ هل أخذوا بأيديهم فبصَّروهم ونصحوهم وعلَّموهم، وحذَّروهم مِنَ الآفات المدمِّرة والأفكار الزَّائغة والأخلاق الرَّديئة؟ هل علَّموهم بالقول والفعل والأسوة أن يكونوا عقلاء وحكماء ورحماء وقبل ذلك علماء؛ كما قال الشَّيخ ربيع حفظه الله.

إنَّ العقل والحكمة والرَّحمة وقبل ذلك العلم؛ قوامُ هذه الدَّعوة وأسُّها الَّذي ترتكز عليه، حتَّى لا يأتيها الدَّمار مِنَ القواعد، وسقفها الَّذي يحفظها من أعاصير الفتن وتحميها من طعنات الغادرين، وغذاءها الَّذي تقوِّي به بنيتها وتديم عليها سترها وعافيتها، فإذا خلتْ هذه الدَّعوة من هذه المذكورات أو تخلَّف واحد منها؛ وقع الخللُ، وانحسر مدُّ المحبِّين والمتعاطفين، وقَوِيَ طمعُ الشَّانئين المبْغِضِين، وتعرَّضت الدَّعوة للتَّصدُّع والانقسام، وربَّما ـ لا سمح الله ـ إلى الانهيار والزَّوال.

فهبُّوا ـ يا دعاةَ الحقِّ ـ لانْتِشَال هذه الدَّعوة من المخاطر المحدقة بها، وترفَّعوا عن السَّفاسف والدَّناءات، واسْمُوا بإخلاصكم وتجرُّدكم إلى نصرة الحقِّ الَّذي آمنتم به، وسخَّرتم لأجله أوقاتكم وأعماركم، فإن فعلتم ـ وذلك ما نرجُو ـ فقد أدَّيتم واجبكم نحو هذه الدَّعوة وأحسنتم في وقفتكم لمحاسبة النَّفس ومراجعة حصيلة الأعمال.

وفَّقنا الله جميعًا إلى ما يحبُّ ويرضى، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين.

فضيلة الشيخ عز الدين رمضاني