<img height="55" width="338">
يقول اللَّه عزَّ مِن قائِل حَكيم: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل : 66].
سُبحان الله! مِن مرابِض الغَنم والإبل حيثُ العُفونَة والأَرواث، وأبخِرة الفَرث التي تملأ الأَجواء وتزكُم الأُنوف يُقدِّمُ الله لَنا دَرسا مَجَّانيا في الإِخلاص!

كيفَ استَطاعَت قُدرَة الباري جلَّ وعَلا أن تُخرِج مِن أحشاءِ المَعز والضَّأن والبَقر؛ مِن وسَط خليطٍ مِن دَمٍ وفَرث لبَنا صافيا نقيًّا لا نُقطَة كُدورَةٍ فيه ولا وسَخ! يشرُبه الإِنسان سائِغا مريئا لا يشكُو مِنه شَيئا!

- كذلكم يُريد الله مِن عبادِه! أن يُقدِّمُوا لَه عَملا خالِصا نَقيًّا مُبرَّءا مِن لَوثَة مَعصيَة أو شائِبَة ذَنب! وَلو كاَنت البيئَة التي يعيشُون فيها بيئَة فِسق وفُجور، ومُستَنقع دعارةٍ وخُمور! ومَوطِن وَيلاتٍ وثُبور!

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر :2- 3].

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر : 11-12].

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة : 5].

- كَم نَحنُ نتلقَّى دُروسا مُباشِرة في الإِخلاص كُلَّ يَوم، أو لنقُل كُلَّ أسبُوع (على أقصَى تَقدير) لدَى جُلوسِنا إلى موائِد الكُسكسي أو الأرُز المَحفُوفَة بأكوابِ الحَليب مِن الماعِز أو البَقَر؛ تغمِزُ لَنا أن أخلِصُوا أعمالَكُم وبيِّضُوا صَفحاتِكم قَبلَ يأتيكُم ملَك المَوت؛ فيجدُ قُلوبَكم آسنَة وأعمالَكم خليطَة؛ وحينَذاكَ وَلاتَ حينَ مَندَم؛ لَا يَنفَع نفسٌ إيمانُها لَم تكُن آمَنت مِن قبلُ أَو كَسَبت في إيمانِها خَيرا!

- بَل لَو صَدقنا القَول وأنصَفنا لقُلنا أنَّ دُروسَ الإخلاصِ قَد شَرعَت مُذ أن أخرَج الله الإِنسان إلى الحَياةِ وهَداه ثَديَيْ أُمِّه!

ليسَ مِن الصُّدفَة أن يستَمرَّ الرَّضيع على الرَّضاعَة حَولين كامِلين لا يتناوَل في الأشهُر السِّتة الأولى إلاَّ لَبن أمِّه وفقَط! إنَّه رسالَة مِن الله سُبحانَه وتَعالى أن دُم على العَهد واصدُق وأخلِص حتَّى تَلقاني لا تُشرِك بي شَيئا!

- ماذا لَو أهدَى لَكَ أحدُهم أخي القارئ كُوبا مِن الحَليب حَديثَ عهدٍ بالضَّرع صافِيا رَقراقا؛ ثُمَّ إنَّه استَوقفَك قَبلَ أن تتحسَّاه وقالَ لك: دَعني أصبُّ قَطرَة دَم فيه ففعَل! هَل سينشَغِل ذِهنَك بمَعرُوفِه الذي أسدَاه إليكَ؛ مُتغاضيا عَن حماقتِه؛ أم أنَّك ستَنظُر إليه شَزرا وحُنقا بعدَ فِعلته تِلك؟!

لا شكَّ أنَّ كُلَّ ذي ذَوق سَليم سيرُدُّ في وَجهِه الكوبَ كُلَّه قائِلا لَه: أنا في غِنى عَن هديَّتِك جُملَة وتَفصيلا!

فإذا كانَ هذا هُو تعامُلُنا مَع بَعضِنا البَعض في أشياءَ مُحقَّرة؛ فكَيف يكُون الحالُ مَع ربِّ الأَرباب؟! أنقابِل نِعمَه السَّابِغَة عَلينا بعَمل خَليطٍ ونقُول لَه بعد ذَلك: اقبَلنا على حالَتِنا هذه يا ربَّ العالَمين!

- ليسَ الإِنسان بِملَك حتَّى لا تَجمَح بِه نَفسُه نَحوَ معصيَة أبَدا؛ ولَكن هُل هُو يُسارِع إلى تَوبَة نصُوح كُلَّما أحدَثَ ذَنبا واقتَرفَ جُرما؟! أم إنَّه يظلّ يسوِّف ويُسوِّفُ حتَّى يأتيه مَلك المَوت وهُو مُثقَل بالمَعاصي والآثام؟!

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء :17- 18].

- لنتأمَّل في هذه الآيَة العَظيمَة مِن سورة التَّوبَة تحكِي عَن أُناسٍ خالَفُوا أمرَ رسُول الله e في الخروجِ للجِهاد؛ وتخلَّفُوا عَن ساعَة العُسرَة؛ فاعتَبَر الله سُبحانَه وتَعالى عَملَهُم ذَلك خَلطا غَير مَقبُول؛ لَو ماتوا عَليه لَم يَقبَل الله مِنهُم صَرفا ولا عَدلا!

يقُول تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة : 102].

- سُبحانَ الله! كُلُّ جِهادِهم الطَّويل مَع رسُول الله، وبلائِهم في خدمَة دينِ الله آمادا طَويلَة؛ اعتَبرَه الله في مُقابِل هذه المَزلَقَة خَلطا يَجبُ عَليهم التَّوبَة مِنه والاعتِرافُ بِه وإلا فأمرُهم إلى تَبابٍ وخَسار!

فكَيفَ بمن يَخلِط إلى صَدقاتِه ونوافِله ومبرَّاتِه ألوانا مِن المُنكرات والمُوبِقات – هيَ دونِ هذه المَعصيَة المذكُورة في الآيَة بأشواط- ثُمَّ إنَّك تَجدُه في النِّهايَة مستَكثِرا لعمله الصَّالِح، مُمتنًّا بِه؛ ولا يَرى كُلَّ تِلك الفَواحِش أمامَها شَيئا؟!!

أأدركتَ أخي العَزيز أنَّنا فِعلا بعيدون جدُّ بعيدون عَن مَنهَج القرآن وآياتِه الواضِحات؟!

- أكرِّرُ فأقول إنَّ الإنسان ما دامَ مُستهدَفا مِن جحافِلِ الشَّياطين فإنَّه ليسَ بمَعصُوم عَن الخَطأ والزَّلل؛ ولَكن هَل هُو يُدرِك حقَّ الإِدراك أنَّ استِمرارَه على مَعصيَتِه، وعَدم الاعتِرافِ لله تَعالى بِها قَبلَ المَمات شَيء لا يَقبلُه ربُّ العزَّة والجَلال؟! وإن هو اعتَرفَ لَه بِها في الآخِرَة فلا تقبَل مِنه مَعذرتُه، ولا يُغني عَنه مِن الله أحد ولَن يجدَ مِن دونِه مُلتَحدا؟! هُنا السُّؤال المَصيري الخَطير.

{هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ. وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات :35- 36].

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ.فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك :10- 11].

الاعتِرافُ بالذَّنب مِن العَبد حاصِلٌ حاصِل لا مَناصَ مِنه؛ يبقَى أنَّ المُؤمنين الصَّادقين المُخلِصين يَعتَرفُون لله تَعالى بذنُوبِهم في الدّنيا فيمُوتون بقُلوب سَليمَة، وأمَّا الأشقياءِ المُجرِمون فيعتَرفُون بِجرائِرهم في الآخِرة في أرضِ المَحشَر! وشتَّان بينَ الفريقَين!

{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ. ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر :11- 12].

نسألُك ربَّنا يا غافِر الذَّنب وقابِل التَّوب أن تَغفِر لَنا ذنوبَنا وتُكفِّر عنَّا سيِّئاتِنا وتتوفَّانا مَع الأبرار!

* فِكرَة الخَلط غَير مَقبولَة بين الإِنسان وأخيه الإنسان فِطرَة! ولنَضرب لذِلك مَثلا بوَلد بارٍّ بِوالدِه لا يَعصي لَه أَمرا، ولا يخالِفُ لَه قَولا؛ طَلبَ مِنه في يَوم مِن الأيَّام أن يُلبِّي لَه طَلبا فقالَ لَه كِفاحا: لا يا أَبتِ! فظنَّ والِدُه أنَّه لَم يَفهَم الطَّلَب أو أنَّ لَه عائِقا يَمنعُه فكرَّر عَليه ما طَلب؛ وكان موقِف الوَلد هُو المَوقِف! فسأله: ما دهاكَ يا بُني وما خطبُك؟! فأجابَه: لقَد أطعتُك يا أبي طِوالَ عُمري، أفلا أعصي لَك أمرا أبدا؟!

تُرَى كيفَ سيَرى ذلكُم الأَب إلى جَميلِ ولَده مَعه طِوالَ تِلك السِّنين؟! هَل سيقُول لَه: بارَك الله فيكَ ولَدي على ما مَضى، أم أنَّ خيرَه كُلَّه سيسودُّ أمامَ ناظِريه؟!

نَضرب مَثلا آخَر لأجيرٍ بسيطٍ عمِلَ عِند أحَد الأغنياء؛ ولمَّا حانَ مَوعِد سَدادِ أجرِه ماطَله ذَلك الغَني؛ أو ربَّما جحدَه أصلا وفَصلا! ثمَّ إنَّ ذلك الأجير المَظلوم سمِع عَن ذَلك "سي فلان المُحتَرم" أنَّه حجَّ بيتَ الله الحَرام، وأقامَ بعدَ عودَتِه وَليمَة فاخِرَة دعا لَها كافَّة أهل القَريَة؛ ثمَّ إنَّه ساهَم في بِناءِ مسجد وأعانَ على إقامَة مدرسَة لأبناءِ قَريَتِه...الخ. تُرى هَل سيَرى ذَلك الأجير كُلَّ تِلك الأعمالِ الصَّالِحَة شَيئا يُذكَر؟! أم إنَّه لَن يَرى في ذَلك الشَّخص إلا تِلك الدريهمات التي حبسَها عَنه ظُلما وعُدوانا؟!

ولله المَثلُ الأَعلى كذَلكُم حالُ العَبدِ مع ربِّه حالَ إصرارِه؛ ما دامَ مُتأبِّيا مُعانِدا مكابِرا؛ غيرَ ناوٍ أن يَفيءَ إلى جَنابِ الله، ويلُوذَ بحِماه؛ فالله لا يَعتبِر عملَه الصَّالِح شَيئا مَهما كَثُر! ولَكن بمجرَّد أن يتُوب فإنَّ صُورةَ ذَلك العَمل سيتَّضِح غبشها؛ وكُلُّ ما قامَ بِه مِن صَدقاتٍ وقُربات وصَلوات (خالصة مِن المنِّ والأذى والرِّياء) سينتَفع بِها وسيَرَى خَيرَها بإذن لله عزَّ وجل.

أمَّا ما بُنيَ مِن أوَّل يَوم على شَفا جُرفٍ هار مِن حُبِّ محمَدة وابتِغاء وَجاهَة وما إلى ذَلِك السَّبيل، فهذا غَير مَقبُول ولَو كانَ في ظاهِره عَملا صالِحا!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 264].

{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 115]. والله لا يَتقبَّل إلا مِن المتَّقين التَّائبين!

* ليسَ بِمَلكِنا أبدا أن نكُون عبادا خالصين؛ ونُقدِّم لله دينا خالِصا؛ لَولا أن تتداركَنا رَحمةٌ مِن ربِّنا! فنحنُ مأمورونَ برياضَة أنفُسِنا ومُجاهَدَتِها، وحملِها على الطَّاعَة واجتِنابِ المَعصيَة؛ ومُحارَبة الوَساوِس الشَّيطانيَّة؛ والله وحدَه يتكفَّل بالباقي!

ولذا نَجدُ التَّعبير في القُرآن الكَريم ب "المُخلَصين" أربَى مِن التَّعبير ب "المُخلِصين" إشارَة إلى أنَّ العَبد ضَعيفٌ بِنفسِه، قويٌّ بربِّه سُبحانَه وتَعالى! وإذا أخلَص الله عَبدا فلَن يكُون للشَّيطان عليهِ مِن سَبيل باعتِرافِ اللَّعين نفسه قبَّحَه الله وأخزاه! وإلاَّ فما أسهَل انقيادَه إلى حبائِل العصيان، وبراثِن الطُّغيان؛ نعُوذُ بالله مِن النُّكوصِ والخِذلان!

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر : 40].

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 4].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} [مريم : 51].

* إذا فقِهنا هذا واستيقنَّاه؛ كانَ لِزاما عَلينا أن نجدَّ ونَجتَهِد في هذا المَهيَع السَّني، ونَسعَى بكُلِّ ما أوتينا كَيما يتوفَّانا ربُّنا بقُلوبٍ سليمَة وبصحائِف بيضاءَ نقيَّة، وبأعمالٍ لا لَوثَة فيها مِن كفورٍ أو فُجور! وهذه بعض نِقاط أسأل الله أن يَنفعني بِها قبلَك أخي القارئ تُعينُ على تَحقيقِ هذا المَقصَد...

أولا: على الإِنسان أن يُدرِك أنَّه مُحاسَبٌ على كُلِّ جَليلَة وحَقيرَة مِن أعمالِه؛ وأنَّ عليهِ من الله رقابَة شَديدَة لا تُغادِر شَيئا مِن عملِه إلاَّ أحصَتهُ؛ إن خَيرا أو شرًّا؛ وأنَّ كُلَّ نَفسٍ سُتجازَى بِما كَسبَت يَومَ القيامَة؛ فمَن عَمِل مِثقالَ ذرَّة خَيرا يَره، ومَن يعمَل مِثقال ذرَّة شَرًّا يرَه!

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ق.

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس : 12].

فكُلُّ شَيءٍ ممَّا تقتَرفِهُ أيدينا مُستنسَخٌ مَحصيُّ عِند ربِّ العزَّة والجَلال؛ لا تَخفَى عليه خافيَة؛ ولا يعزُب عَنه مِن مِثقالِ ذرَّة في الأَرض ولا في السَّماء! فأينَ المَفر للفُجَّارِ والظَّلَمَة ممَّن يسمَع دبيبَ النَّملَة السَّوداء على الصَّخرَة الصَّماء في اللَّيلَة الظَّلماء لا إله إلا هُو سُبحانَه!

وإن سَتَر أحدُنا خَبيئَتَه على الخَلقِ فأنَّى يستَطيعُ أن يَطوي سِرَّه ويُخفيَ سريرَتَه عَن خالِقِ البريَّة؛ وهُو أعلَم بِنا إذ أنشَأنا مِن الأَرض وإذ نَحنُ أجنَّةٌ في بُطونِ أمَّهاتِنا؟! يعلَم خائِنَة الأعيُن وما تُخفي الصُّدور! يعلَم السِّر وأخفَى! ما يكُون مِن نَجوى ثَلاثَة إلَّا هُو رابعُهم ولا خَمسَة إلاَّ هُو سادسهم، ولا أدنَى مِن ذَلك ولا أكثَر إلا هُو مَعهُم أينَما كانُوا!

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية :28- 29].

- على شَفيرِ جهنَّم حيثُ تنتكسُ الرؤوس، وتَخشَع الأبصارُ مِن الذُّلِّ؛ يُوقفُ أعداءُ الرَّحمن صفًّا ثُمَّ يُجثَونَ على رِكابِهم هُم والشَّياطين؛ وتُعرضُ عليهِم صحائِفُ أعمالِهِم فيتحيَّرُون ويُشدَهُون ولا يَملكُون خِطابا!

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف : 49] .

{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء : 14].

- تُبكتُ أفواهُهم وتُخرَسُ ألسنتُهم؛ وتَنطِقُ جوارِحُهم نيابَة عَنهُم بِما أسلفُوا في الأيَّام الخاليَة!

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} فصلت.

ثانيا: إذا علِمَ الإنسانُ هذا وتشرَّبَه فُؤاده؛ عاشَ أيَّامَه وساعاته وأكبَر همِّه كيفَ يُبيِّضُ صَفحةَ عملِه فيما يستَقبلُه مِن حياتِه، وكيفَ يتنصَّلُ ممَّا فرَّطَ في ماضي عُمرِه! أجَل هذا هُو الكيِّسُ الفَطِن الذي يدينُ نَفسَه ويَعمَل لما بعدَ المَوت، والعَاجزُ كُلُّ العَاجز مَن أتبَع نَفسَه هَواه وتمنَّى على الله الأَمانيّ! صَدق الله العَظيمُ حينَ قال: { بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة : 5]!

قليلٌ مِن عبادِ الله مَن تَجدُه يتفكَّرُ في ماضيه، ويُرجِع عَجلَة حياتِه إلى الوَراء في كُلِّ مرَّة حتَّى يُصلِحَ ما أفسَد، ويُرمِّمَ ما أنقض، ويمحُو آثارَ سَوءاتِه! هذا هتَك لَه عِرضا فيستسمِحُه، وهذا أكَل لَه مالا فيُعوِّضُه، وهذا شتَّت لَه شَملا فيُحالِلُه، وهذا جرَح لَه عُضوا فيُقاصِصُه؛ وهذا غَصبَ لَه أرضًا فيُردَّها إلى صاحِبها...الخ ناسِيا مُتناسِيا أنَّ تِلك الأفلام السَّوداء وإن طَواها الدَّهر ولَم يعُد يذكُرُها هُو ولا ناسُه؛ فإنَّها ستحضُر ماثِلَة بينَ ناظريه يَوم القيامَة بتفاصيلِها! وما مِن غائبَة في السَّماءِ والأَرض إلا في كِتابٍ مُبين!

وحتَّى لا يَبقَى هذا الأَمر في مُستَوى الوَعظ والنَّصيحَة فَحسب، ويَرتَقي إلى الجانِب العَملي التَّطبيقي؛ على كُلِّ مِن يَرجُو لِقاءَ الله، ويطمَع أن يُدخِله الله في رَحمتِه، ويقيهِ مِن يَومٍ كانَ شرُّه مُستَطيرا أن يجلسَ في خُلوَة مَع ربِّه؛ ولتكُن في جَوفِ اللَّيل وهدأتِه؛ وبعدَ أن يركَع لربِّه ركَعاتٍ خاشِعات؛ يسألُ مِنه المَدد والعَون والتَّوبَة النَّصُوح على ما فرَّط في جَنبِه، وأن يُبعِدَ عَنه شَياطينَ الإنس والجن؛ ثُمَّ يأخُذ كُرَّاسا وليُسمِّه إن شاءَ "كُرَّاس مَشروع الآخِرة"؛ ثُمَّ يسيحُ بِخيالِه إلى ماضيِه البعيد والقَريب؛ وليكتُب جَميعَ ما حَضَر في ذِهنِه مِن تبعاتٍ بينَه وبين الله (مِن صَلوات وزَكوات وصيام ونُذور وكفارات...الخ)، ثُمَّ ينتَقلُ إلى مَظالِم العِباد وحُقوق الخَلق..هذا عمِل عِندَه في السَّبعينات ولَم يدفَع لَه حقَّه! وهذا استأجَر مِنه بيتًا ولمَّا ينتَه مِن دَفع الأقساط إليه، وهذه فتاة اغتصبَها، وهذه تَركَة وُكِّل عليها فغصَبَها وحَرم الوَرثَة، وهذا مالُ يَتيم أكلَه إسرافًا وبِدارا أن يَكبَر...

وهكذا يُعطي المَجال رَحبًا لمُخِّه الذي طالَما استَخدَمه في تدبيرِ المَكائِد والتَّخطيطِ للمَعاصي أن يشتَغِل هذه المرَّة بِفتَح المِلفَّات القاتِمة التي لَم يكُن يرغبُ أبدا في تذكيرِه بِها؛ ولَكن أن يتذكَّرَها هُنا في الدُّنيا وهُو صَحيح شَحيحٌ حتَّى يتنصَّلَ مِنها خَيرٌ مِن أن يتذكَّرَها عندَ رُؤيتِه لجهنَّم وهيَ ترمي بشرارَة كالقَصر كأنَّه جِمالاتٌ صُفر، ولاتَ حينَ مناص! ليسَ لَه مِن دُون الله ولي ولا شَفيع!

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي. فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ. وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر : 23- 26].

- وهكذا يُوالي بينَ تِلك الجَلسات التَّذكُّريَّة ولا يَكتَفي بِواحِدَة حتَّى يستَفرِغَ وُسعَه؛ وهيهاتَ أن يُحصِيَ كُلَّ ما قدَّمَت يَداه؛ ولَكن الإنسان مُكلَّفٌ بالمَقدُور المُستَطاع؛ والباقي مَرفُوعٌ عَنه بلُطفِ الباري ورحمَتِه... وخالِقُنا الوَدُود يُعلِّمُنا في أواخِر سُورة البقَرة أن ندعُوه دَوما بِقولِنا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 286].

- لا يصدُقُ على المَرء أنَّه ناسٍ حَقيقَة إلا بعدَ أن يبذُل جُهدا مَشكُورا في تذكُّر ذُنوبِه! لا أن يُلقي بالحَبل على الغارِب كَما يقُولون ولا يأبَه بشَيء اسمُه التَّوبَة والإصلاح أبَدا؛ ثُمَّ إنَّه يقُول إنِّي نَسيتُ والله لا يُكلِّفُ النَّاسي! لا لا أبدا! ففقهاؤنا يُقرِّرُون قاعِدَة أنَّ الميسُور لا يسقُط بالمَعسُور! فالإنسان مُكلَّفٌ بالتذكر قدرَ استِطاعتِه والله يجبُر النَّقص بعد ذَلك فلنرعَوِ ولنتدبَّر فإنَّ الأَمر جِدٌّ!

- يُشبِّه بعضهُم عمليَّة التَّذكُّرِ والاستِحضارِ هذه بعَصر الإسفنَجة المَبلُولَة؛ فالإسفنجَة إذا ابتلَّت وتضمَّخت بالماءِ، فمَهما عصَرَها الإِنسان فإنَّها ستبقى نديَّةً في آخِر المَطاف ولا تعُودُ إلى سيرَتِها الأُولى كَما كانَت جَديدَة... كذلِكُم ذاكِرَة الإنسان! فالعُلماءُ يُثبتُون أنَّ كُلَّ اللَّقطات التي تمرُّ على الإِنسان في حياتِه مَحفُوظَة داخِل خلاياه العصبيَّة لا تَضيع...حتَّى القَلب أثبَتوا أنَّ فيه خلايا ذاكِرة، وكذلكم الجِلد، وهُم في طَريقِهم ليُثبتُوا أنَّ جَميع الجَوارِح مُتوفِّرَة على ذاكِرة تصديقا لقَول ربِّ العزَّة الآنِف ذكرُه في سُورة فُصِّلت... وعلى حَسبِ جُهد الإنسان في الاستِحضار والتَّذكُّر تدلِفُ تلكَ الصُّور واللَّقطات إلى خَلدِه تباعا؛ ولا شكَّ أنَّه لا يُمكِن تذكُّر كُلِّ شَيء بينَ يَوم وليلَة، وكثيرٌ مِن الأُمور تَحتاجُ إلى روابِط ذِهنيَّة مُتعلِّقَة بأشياء خارجيَّة لتذكُّرِها! حسبُ الإِنسان أن يكُونَ على اهتِمام دائِم مُستَمر بِهذا الأَمر ولا يكُونَ في غَفلَة مِنه نابِذا إيَّاهُ وراءَه ظِهريَّا!

- كثيرٌ مِن النَّاس للأسَف يَفهمُون أنَّ التَّوبَة النَّصُوح تَقتَصِرُ على النَّدَم، والإقلاع والعَزم على عَدم الرُّجوع فَحسب؛ أي تَوبَة يُراعى فيها المُستَقبَل ولا يُلتَفتُ فيها إلى الماضي أَصلا وفَصلا؛ غافِلا سادِرا أنَّ الله قَرنَ التَّوبَة دَوما بالإِصلاح الذي يَعني جَبر الأَخطاء، ومَحو الآثار! لنتأمَّل هاتَين الآيَتين كمِثال...

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل : 119].

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء : 146].

- تَجدُ سارِقا قَد تغوَّل الملايين، ومُحاميا قَد دافَع عَن عشَرات القضايا البيِّن بُطلانُها حتَّى يستَرزِق ويَعتاش، ومسؤولا في الدَّولَة قَد زوَّر عقُودَ عشرات الصَّفقات وحوَّلَها إلى حِسابِه، وزَوجا قَد طلَّق زوجَه طلاقا تعسُّفيا غاشِما، مُجرِّدا إيَّاها مِن كُلِّ حُقوقِها المَعنويَّة والمادِّية... يقُول لَك بعدَ أن يبلُغَ مِن الكِبر عُتيا: قَد تُبت وأنبتُ والله غفُورٌ رَحيم، وقَد حججتُ بيتَ الله الحَرام لِعلمِك وغسلتُ أضلُعي بماءِ زمزَم وقيلَ لي إنَّ الحجَّ المَبرُور يُرجِع المَرء إلى أهلِه كَما ولدتهُ أمُّه!

نقُول لَه: نَعم يا أخي قَد تُبتَ ثبَّت الله أقدامَك على طاعتِه، والله أفرَح بتوبَة عبدِه مِن صاحِب النَّاقَة الكَوماء في متاهات البيداء! ولَكن ما بالُ ما فاتَ مِن ماضيك؟! والنَّاس الذين ألحقتَ بِهم الضَّرر وتجرَّعُوا الصَّابَ والعَلقَم بسبَبِ نَهمِك وجشعك وجبرُوتِك؟! أَتُحالُ قضاياهُم إلى النِّسيانِ هكذا ضَربَة لازِب؟! هذا حالُ كثيرٍ مِن التَّائبين للأسَف، ولا تَسل عَن المُصرِّين المُعانِدين أصحاب فِكر "ما نتوبَش ودز معاهُم وإلى ما عجبكش الحال روح اشتكي" وإلى الله وَحدَه المُشتَكى مِن هؤلاءِ الحَمقى والنَّوكى!!

- هُنا نُؤكِّدُ عَلى أَمر يُعينُ جِدا في قضيَّة التَّوبَة وتذكُّر الذُّنوب، وتصفيَة المِلفَّات العالِقَة؛ ألا وهُو الإِكثارُ مِن ذِكر الله عزَّ وجل بالغُدو والآصال، والتَّعلُّق بِجنابِه، والتَّضرُّع إليه بافتِقار وخُشوع قَلب؛ مَع ارتيادٍِ لمجالِس الذَّاكِرين وابتِعادٍ عَن مجالِس الغفلَة والغافِلين! أليسَ الله قَد سبَّق ذِكرَه سُبحانَه عَلى طلَب الصَّفح والغُفران؟! لنتأمَّل هذه الآيات في سُورة "آلِ عِمران"...

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران : 133- 135].

- حقًّا مُعجِزة! ذَكرُوا الله (بأيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ الذِّكر؛ مِن مُنطلَقِ أسمائِه وأفعالِه ونواميسِه، أو ثوابِه وعقابِه...الخ)؛ فولَّد ذَلك الذِّكر استِغفارا وإنابَة؛ لازِمُه أنَّ مَن كانَ بعيدًا عَن بيئَة الإيمان والذِّكر ومجالِس الصَّالِحين، وعمارَة بيُوتِ الله، والإنصاتِ للمواعِظ فقمِنٌ أن لا يُفكِّر في شيء اسمُه التَّوبَة البتَّة! وكُلُّ إناءٍ بِما فيه يَنضَح! ولنتأمَّل هذه الآيَة المُعجِزة الأُخرَى في سُورةِ الكَهف!

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف : 57].

- نستَخلِصُ قانُونا عَظيما يجبُ أن يُحفَظ ولا يُنسَى: قُوَّة الإعراض عَن الذِّكر يُولِّدُ ضُعف ذاكِرة الذُّنوب والمَعاصي!

- ولِذا فإنَّ العُتاة الطُّغاة أصحاب الأَوزار والآثام يتفاجؤونَ يَوم القيامَة بكَثرَة ذُنوبِهم التي اقترَفُوها ويستَنكرُونَها، وما ذَاك إلاَّ لأنَّهُم نسَوها ولَم يأبهُوا بِها!

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل : 28- 29].

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة : 6].

- أجَل! كُلّ شَيء قَد أحصاهُ الله كِتابا؛ ولكِن الشَّقي حينَ يَقعُ في أوَّل مَعصيَة ويُعرِض ولا يتُوب؛ تبدَأ سيِّئاتُه تكثُر وتَزداد وهُو لا يشعُر بذلِك تحتَ تأثيرِ الوساوس الشَّيطانيَّة المُخدِّرَة للقَلب؛ وكُلَّما قَويَ الإعراض واستَحكَمت الغفلَة كُلَّما غرِقَ ذَلكُم الإنسان في حمأة المَعاصي ومُستَنقعات الذُّنوب، حتَّى تُحيطَ بِه سيِّئاتُه مِن كُلِّ جانِبٍ وتغلَّ عُنقَه؛ يأتيهِ ملكُ المَوت وهُو مُثقَلٌ بأوزارِه – والعياذُ بالله-، ويُوقفُ في يَوم الحَشر بينَ يَدي ربِّه ذليلا مُنكسِرا، فيتذكَّر حينذاكَ كُلَّ ما قدَّمت يَداه وأنَّى له الذِّكرى... لنستبصِر بِهذه الآيات البيِّنات!

{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 81].

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر : 18].

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [الأنعام : 31].

{ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} النازِعات

- ما أثقَل الأَوزار والذُّنوب على الإِنسان وما أشدَّ وطأتَها عَليه في الدُّنيا والآخِرة... فهيَ تنقُض الظُّهور، وتقُود إلى الوَيلاتِ والشُّرور! اللهم غُفرانَك غُفرانَك! يا ربِّ سلِّم وأعِن وثبِّت فإنَّه لا حَول لَنا ولا قُوَّة إلاَّ بِك! يا أكرَم مَن سُئِل وأجوَد مَن أعطَى!

ثالِثا: على المَرءِ أن يُسارِعَ إلى التَّصفية ولا يَتوانَى ولا يُسوِّف؛ فالتَّسويفُ بِضاعَة الكُسالَى، وملَك المَوتِ لا يُنظِرُ أحدًا حتَّى يعمَل صالِحا ولَو لِدقيقَة!

{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون :99- 100].

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل : 61].

- فكتابَة تِلك المُذكِّرَة التي تحدَّثنا عَنها والتي أسمَيناها ب "كراس مَشروع الآخِرة"؛ أو يجُوز حتَّى أن تكُون مُتضمَّنَة في الوصيَّة؛ ليسَ لكَي يُخلِد الإنسانُ إلى النَّوم ويتقاعَس؛ مُتوهِّما أنَّ الواجِب هُو الكتابَة وقَد كتَب؛ بل إنَّ ذَلك الكُرَّاس وثيقَة لضَبط الحُقوقِ والتَّبِعات وحصرِها، والاستِعانَة بِه على تتبُّعِها!

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133].

- مِثلَما يُسارِع الإنسانُ إلى جَمع المالِ وقضاءِ المصالِح، وتحقيقِ الحاجياتِ الدُّنيويَّة؛ فعليه أن يُسارِعَ مِثلَ ذَلك وأربَى إلى تَنظيفِ ملفِّه مَع ربِّه بكُلِّ ما أوتِيَ مِن جُهدٍ وقُوَّة... صلوات فائِتة، حج مُؤخَّر، قضاءُ صيام، إخراجُ زكوات مُتراكِمةَ لِسنين، رد الأَمانات إلى أهلِها، مُحاللَة النَّاس مِن مظالِم الأَعراض والأَموال...الخ. فكَثيرٌ مِن أربابِ الأَموال يسعَى في أُمورِه وصَفقاتِه إلى حدِّ السَّرف، ورُبَّما يُنهِك في ذَلك صحَّتَه ويُفني أوقاتَه! سَفرٌ إلى الخارِج، مُتابَعة أسواق البُورصَة، مكالَمات لا تَنقطِع إلى فُروع شَركتِه في أقاصي البِلاد وأدناها... ولا يُفكِّر يَوما أن يبذُل ولَو خُطوَة يسيرَة في سبيلِ تصفيَة مِلف مِن ملفَّاتِه المُتكاثِرة! أحُطامُ الدُّنيا أغلى عِندَه مِن نَعيم الجنَّة؟! أيُساوي بينَ التِّبر والتُّراب؟!

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء : 17- 18].

- فإذا نَوى الإنسان التَّصفيَة وسارَع في سبيلِ ذَلك بِما أوتِيَ؛ ثُمَّ إنَّه ملَك المَوت عاجَله قبلَ أن يُكمِل تصفيَة ملفَّاتِه؛ فقَد وَقع أجرُه على الله؛ ويُكتَبُ عِند الله تائِبا ولَو لم يُصفِّ مِن خلطِه إلاَّ النَّزر اليسير! العِبرَة بالنِّية والجُهد والله يتولَّى الباقي! تَماما مِثلَ المُهاجِر الذي نَوى بهجرتِه وَجه الله تَعالى ثُمَّ ماتَ في طريقِه قبلَ أن يصِل إلى مُبتَغاه!

{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[النساء : 100].

رابِعا: ممَّا يدخُل في صَميم مشرُوع التَّصفيَة؛ والإعداد لمُلاقاة الله تَعالى بعَمل خالِص؛ أن ينوي المَرء مِن أوَّل يَومٍ أن يُصفِّي جَميع تبعاتِه ولا يترُكُ مِنها واحِدة مُتعمِّدًا غير ناسٍ!

فإن قالَ مثلا: إنَّني مُستعد لقضاءِ الصَّلوات ولستُ مُستعدا للصِّيام؛ أو قالَ إنَّني أصُومُ رمضان ولا أصُوم شَهرين مُتتابِعين كفَّارَة؛ أو أحالِلَ جَميع النَّاس إلا جاري فُلان أو شَريكي فُلان؛ فإنِّي لَن أتصافَى مَعه إلى يَوم القيامَة... وأضرابُ هذه المَسائِل التي يعجُّ بِها الواقِع المَرير للمُسلمين؛ فإنَّ حامِل مِثلِ هذه النِّيَّات غير الحَسنَة لا يُوفَّقُ للتَّوبَة، وسيتعثَّر في مُنتَصَف الطَّريقِ طالَ الزَّمان أو قصُر! فالله أغنَى الشُّركاءِ عَن الشِّرك؛ لا يَقبَل مِن عبدِه انتِفاجَة أو عَجرَفة أو شُموخ أنف! إمَّا أن تُصفِّيَ الجَميع أو تترُكَ الجَميع!

{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 85].

خامسا وأخيرا وليسَ آخِرا أن يُصفِّيَ المَرء تبعاتِه، ويتنصَّل مِن علائِقه بِعلمٍ شَرعيٍّ رصين مَضبُوط عَن أهله وذَويه! فكثيرٌ مِن التَّائبين يَنوون التَّوبَة والتَّصفيَة ولَكن يُصفُّون حسبَ أمزِجتِهم وأهوائِهم! فقَد يقُول لَك بعض الأغمارِ الجَهلَة مَثلا (و كثيرا ما نسمعُه في الواقِع) إنَّ عمِّي فُلان لا يَحسبُ أموالَه مِن وَفرتِها وكَثرَتها؛ أفأذهَب إليه وأقُول لَه: لقَد اختلستُ مِن دُرجِك ورقة مائة دينار؟! أو كسَرتُ لك كأسا في يَومٍ مِن الأيَّام؟! وهَل يُحسُّ الجَمل بأثَر الوَخز مَع ضخامَته ووفرَة لحمِه وثخانَة جلدِه؟! "خلِّيك" يا أخي مِن الوَسوسَة والمُغالاة في الدِّين؛ وما هلَك إلاَّ المُتنطِّعُون! في حينِ أنَّ تِلك مَظلمَة مِن المَظالِم لابُدَّ مِن التَّنصُّل مِنها! ومِثل هذه الفتاوى "حسب الذَّوق" كثيرَة أنواعُها في الواقِع!

فعلَى مَن أرادَ أن يتحرَّى لدينِه إذَن أن يقصِد مَن يتوسَّم فيها التَّقوى والصَّلاح، والضَّبط العِلمي، والرُّسوخ في أحكامِ الشَّرع، وحُسن الاستنباط وتحقيقِ مناط الأَحكام؛ عارِضا عَليه مسائِلَه بأدَبٍ ووَقار، وبحكايَة عَن الغَير إبعادا للتُّهمَة؛ وغير ذَلك من آدابِ الفَتوى التي تعلمناها مِن مشائِخنا في آدابِ الفَتوى جَزاهُم الله خيرا؛ تُطلَب في مَظانِّها!

{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء : 83].

- وإن كانَت القضيَّة الآن ممَّا تشتَجِرُ فيه الحُقوق ولا يستبينُ صاحِب الحقِّ إلاَّ ببيِّنات ودَعاوى وإثباتات؛ فلابُدَّ مِن عَرضِها على قاضٍ شَرعيٍّ؛ مُتَّصِفٍ بشُروط القاضي كَما نَجدُها في كُتب الفقه والأحكام؛ ولي في هذا الشَّأن مَقالٌ أسميتُه "لطائِف الحُكم والقضاء مِن خلالِ سُورة ص" أرجُو أن يَشفيَ بعض غليلِك أخي القارِئ في هذا الجانِب الحسَّاس.

* فإذا التَزمَ المرءُ بِهذه الكلِمات وأتمَّهنَّ بِفضل الله وتَوفيقِه وَحدَه (فما كانَ لنَفس أن تُؤمن إلا بِإذن الله)، أتاه ملَك المَوت وهُو مُتسربِلٌ بسربالِ الإخلاص، ومُتحلٍّ بحُلَّة التَّقوى؛ فأماتَه طيِّبا، ونامَ في قبرِه قَريرَ العَين؛ حتَّى يحشُرَه الله سُبحانَه مَع النبيين والصِّديقين والشُّهداء ضاحِكا مُستبشِرا؛ بوَجه صبُوح مُشرِق! ولا غَرو! فبياضُ الوَجه يلتَقي مَع بياضِ الصَّحيفَة؛ ثُمَّ إنَّه يُؤتَى كِتابَه بيَمينِه، ويشهده المُقرَّبُون؛ ويُنادِي في الجَميع فرِحا مسرُورا: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الحاقَّة.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل : 32].

- جعلنا الله جَميعا مِنهُم، ورزَقنا تَوبَة نصُوحا قبلَ المَوت! فلا سَبيلَ للنَّجاة مِن عذابِ الله إلاَّ بِها! وأسدِل السِّتارَ عَن أسطُري هذه بهذه الآيات البيِّنات المُشرِقات...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} الحشر.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم : 8].
والحَمد لله ربِّ العالمين