بقلم:سامح عسكر

رؤية موسّعة في التوسل ونزعات الهدم المادية والفكرية

منذ ما يقرب من عامين فكرت في إثارة مادة فكرية تُمثل محل نزاع لدى الكثيرين، ثم القيام بعرضها عبر أسلوب جدلي يٌقرّب المفاهيم، سيقول البعض ولماذا تثير هذه المادة وأنت تعلم ما حولها من خلاف..الجواب أنني أردت تقديمها بأسلوب جديد يهدم ما لصق بها من سلبيات سواء لهذا الطرف أو لذاك، ويُعيد صياغتها في قالب عملي تنويري أملاً في زوال أي تشويش يحدث من ورائها...واكتملت الفكرة بحمد الله وقدمتها بعد شهور من الصياغة، وكعادتي لا أقدم على الكتابة إلا بعد أن تكتمل قناعاتي وتتجرد في ذهني كافة المفاهيم المتعلقة بها..فأي فكرة لابد وأن تُرافقها نزعة تعليمية تُخضع هذه الفكرة للجوانب الإلقائية والعملية، وعندما تفتقد الفكرة لتلك النزعة فهي إما عبارة عن جزء من كل فنقع في الخلاف الشديد حولها وذلك في إطار بحثنا عن كُليتها لتجريدها، وإما هي بالأصل فكرة متوهمة ليست لها مسوّغ شرعي أو عقلي وتلقفتها أذهاننا- حسب أعرافنا وثقافاتنا المُختلفة.

وفي قضية التوسل أرى أنها فكرة حقيقية وليست متوهمة وبالتالي فهي تحتفظ بمسوّغاتها الشرعية والعقلية لدينا، فقط هي بحاجة لفهم داخل منظومة العمل والإلقاء بعيداً عن الدجل والعُنف المقابل له أو عن الضعف ونزعات السيطرة المقابلة له..فالإنسان بطبيعته يتوق للحرية ويعتقد في حريته أنها مصدر أصيل لقوته الوحيدة، وبالتالي كان رفض الرأي الآخر هو طبيعة بداخلنا نتجت عن اعتقادنا بذواتنا كأولوية..وأننا إذا سلكنا سلوك الحوار والجدل فسيقودنا ذلك إلى الفهم، لذلك فعندما تتعقد أي مشكلة بين طرفين مهما بلغ مقدار تعقيدها فالحل السهل واليسير لها يبدأ من الحوار.

رحم الله أبي القاسم الشابي الذي قال بأن الحياة صراع فبدّلها البعض إلي صراع الحياة..وسواءً كانت هذه أو تلك فثبوت الصراع في الدنيا بدهي، بل تكاد أن لا تجد مجالاً أو منطقة أو مجموعة من البشر إلا وكان الصراع فيهم حاضراً –بطبقاته-كنتيجة حتمية لسنة التدافع…تظهر أنواع تلك الصراعات فتأخذ أشكالاً أقرب إلي صورة الشخص المُخيلة إليه ، فيرى نفسه طرفا أصيلاً يحمل الحق في مواجهة الباطل، وبغرور الإنسان وتناظره وحِرصه علي الانتصار يبعد عن النجعة وتزداد الهَوّة..وبعيدا عن مؤلفات الصوفية والسلفية حول التوسل والتي لا تكاد تخلو من التبرير والأدلجة..أرى أن قضية التوسل بحاجة للتوضيح من مجال آخر أكثر خصوصية للإنسان في عقله وثقافته وعُمق استقراءه..وكأن المسألة لدينا ليست بحاجة إلي علم أكثر ما هي تحتاج إلي عقل وبالتالي إلى فهم..فالعِلم يرتبط بالمعلومة كمغذي أولي ، والمعلومة تعني التقريب وسيادة مفاهيم التواصل، أما لو تحالف العلم مع العقل حينها سيُفنّد المعلومة ويطرحها للتساؤل وهذه أولي مراتب العلم الحقيقية…السؤال ..وعدم التسليم للموروث دون محاججته وإخضاعه للشك.. هذا فيما دون الأمر فيه بالتسليم…

قد يقول قائل بأن قضية التوسل تمس أصول الدين وتجرح التوحيد ولا ينبغي التهاون فيها…وقائل آخر يقول بأن التوسل جائز وهو قول جمهور السلف والخلف ولكن يفعله المتوسلون بشرائط تحفظ لهم دينهم وحبهم لأولياء الله الصالحين …إذن نحن أمام طرفين..الأول يفعل والثاني يُنكر..ولكن لم يسأل أحد منا من قبل ماذا لو لم يلتزم كل فريق بضوابط الفعل والإنكار؟..هذا ما أود الإِشارة إليه كمُدخل لفهم تلك القضية التي تسببت في شقاق بين المسلمين وتشيعهم لفرق متناحرة تقاتل بعضها بعضاً علي التافه والعظيم..

إن الطرف المُدافع عن التوسل يدافع عنه لاعتقاده بأنه لازم من لوازم حب الولي الصالح..ومنهم من يرى في التوسل وسيلة فطرية تدفعه رغباته الإيمانية بالاستزادة من سيرة المتوسل فيه..وكأنه يري القدوة العملية في ذهنه حاضرة وبحاجة لإخراجها من حيّز الصورة إلي حيّز الفعل..أغلبهم يعلمون ضوابط الفِعل ولا ينساقون وراء أهوائهم التي أحيانا تخرج بهم عن المألوف فيرتكبون جُرماً عظيما..وفي الغالب يقع هذا الطرف أسيراً للعُزلة..فيعبد الله بحواسه قبيل عقله وينساق وراء عاطفته الجياشة -التي يتميز بها عن الآخرين..فتُسقطه عبادته في براثن العُزلة والجهل بالتركيبة المجتمعية والسياسية والثقافية المحيطة به..فيرى مصطلحات العصر-المتداولة-شذوذا عن العقائد ويُخضع الأحدث لمعتقده ، ولن يقع في ذلك المأزق كل متفتح من ذلك الطرف يعلم معني الحب والإيثار أشمل مما درسه وتلقاه علي أيدي مشايخه فيسع صدره وعِلمه الآخرين.

أما الطرف المحارب للتوسل فحاله أشبه بحال المدافع وقد يفوقه سوءا..وكأن قضية التوسل ليست بحاجة إلي هجوم أو دفاع أكثر من حاجتها للعقل الذي يضع لها معايير خارج الفهم الموروث والمُقيّد بقيود الزمان والمكان..فحال الهجوم لن يخلو من الأخطاء ولو لم يراجع ذلك الطرف أخطائه فستُهدم شخصيته لأنه لا حقيقة كاملة دون الخطأ والاعتبار منه..وحال ذلك الطرف علي خطر عظيم..فالهجوم الدائم قد يقلب الإنسان إلي وحش كما قال "نيتشة" بضرورة أخذ الحذر عند مقاتلة الوحوش لئلا يُصبح المقاتل وحشا…هذا هو الإنسان ضعيف المَلكة، تدفعه حواسه للحُكم والفِعل دون وضع حواجز تحول بينه وبين الغلو.. وبالامكان أن نري تلك الوحوش الافتراضية في مجتمعاتنا بوضوح…

ستري أن أكثر المحاربين للتوسل قلوبهم غُلف ولا تتقدس لديهم القدوة إلا بخضوعها لهوي المحارب ورأيه، فهم يرون التوسل فِعلاً جارحا للعقيدة وهؤلاء أرجح أنهم مُقصّرون في واجبات التربية الإيمانية أوالتثقيفية التي تجعل مقاصد الإسلام وروح شريعته نبراسا لهم أمام أعينهم ،وأكثر هؤلاء صناع للفِتن ..فتَحكّمِهِم في أنفسهم بسيط مع وجود حافزهم أقوي..ولو أعملوا عقولهم لوقفوا علي أن التوسل هو فكرة قبل أن يكون فِعلاً جارحا للعقيدة..ولن يُجابه الفكرة سوي الفكرة المضادة الخالية من الإقصاء أو التهميش الذي قد يضع الهدف المقصي في خانة الضعف مما سيجلب لها الأنصار..أما الفكرة المضادة الصحيحة هي قيام الفرد علي ذاته بالتثقيف والاحتكاك والحضّ عليه، وأن يهَب نفسه للحُبّ والإيثار..وأن لا يَعجل بزوال المُنكر -وإلا لم يكن هذا الفعل منكراً..وأن يقوم علي إِشغال فراغه وفراغ الناس ، وأن يعمل كحلقة مجتمعية لقتل الجهل بالتحريض علي معرفة أوجه الخِلاف وتدارسها ببيّنة عقلانية وروحية شرعية..

بينما ستري أكثر المدافعين عن التوسل يُفرغونه من مضمونه الداعي إلي حبّ الولي والاقتداء بسيرته وتقليده في عبادته..فينقلون التوسل من مجال العبادة والتطهير إلي مجال التعصب للفكرة..فالمحارب يترصد لهم ولو لم يدافعوا ستُمحى هويتهم وهوية الأولياء…ولو أعملوا عقولهم سيجدون أن لا حاكم عليهم سوى أنفسهم..سواءً بقي ها القبر أم ذهب ..أو ضعفت فكرة التوسل أو قويت.. فالتوسل في مكنونهم دافع للعبادة أكثر منه شرطاً أو وسيلة..فهم الذين يصنعون ويحملون التوسل..وبالامكان زرعه كفكرة في قلوب الأجيال دون التعرض للدافع أصلاً ، هذا الدافع الذي ومن كثرة الدفاع عنه وإبرازه كفكرة مقدسة -أو جائزة مُدافع عنها- ستوضع في قفص الاتهام وسيُشار إليها كمُنكر لدى العامّة..

من تلك الظواهر وقفت علي رأياً وسطا أسوقه كالتالي:

1-أن قوله تعالي"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان"..هو قولُ كافٍ لاختصار طريق الدعاء وعدم التكلف.

2-ضرورة الحضّ علي حُبّ الأولياء وتدارس سيَرهم لزرع القدوة أمام الأبناء..خاصة أننا شعوب بحاجة ماسّة إلي إظهار قدى تتسم باللين والزُهد والحبّ والمقامات الربّانية والعِرفان.

3-يتميز الصوفيون بإنكار ذواتهم وتنمية نزعاتهم الاجتماعية..فالتصوف –كفكرة- تغرس لديهم الإيثار والزُهد..وهاتين القيمتين كافيتان لبناء مجتمع ناجح و مترابط.

4-يتميز السلفيون بغيرتهم علي العقيدة..ولكن من الغيرة ما قتل والتكلف يودي إلي المهالك.

5- أن علي الطرف المحارب للتوسل عليه بناء ذاته وإنسانيته بعيدا عن فكرة الوصاية علي الآخر التي تستحوذ علي عقله، إضافة إلي إظهارها للاقتداء بها ظهوراً لا رياء فيه ومُفعم بالإخلاص والربانية..

6-ضرورة الحِفاظ علي الآثار الإسلامية ومن بينها قبور الأولياء ومقاماتهم..فأي أمة تفرّط في آثارها ينقطع الحبل بينها وبين ماضيها..

7-لا أري في قضية التوسل حاجة للزهد عن الخوض فيها..وكأنها قضية تراث إسلامي مختلف عليها بين الفقهاء وحسب..وإلا لن نُراوح أمكنتنا وسنظل في دائرة الخلاف تتسع وتضيق حسب مستوي العِلم وجُهد العلماء..من الضروري بل من الواجب النظر إليها برؤية أكثر عصرية مما قُرئ عنها في الكُتب…