الحياة البرزخية حياة حقيقية وهذا ما دلت عليه الآيات البينات والأحاديث المشهورة الصحيحة وهذه الحياة الحقيقية لا تُعارض وصفهم بالموت كما جاء ذلك في كتاب الله العزيز إذ يقول {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}ويقول {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} إن معني قولنا عن الحياة البرزخية بأنها حقيقية أي ليست خيالية أو مثالية كما يتصورها بعض الملاحدة ممن لا تتسع عقولهم للإيمان إلا بالمشاهد المحسوس دون الغيب الذي لا يطيق العقل البشري تصوره ولا تسليم كيفيته لقدرة الله إن وقفة تأمل قصيرة عند قولنا عن الحياة البرزخية بأنها حقيقية لا تبقي من الإشكال أدني ذرة حتي عند من يقصر فهمه وذوقه عن تعقل المعاني

فكلمة (حقيقية) ليست إلاَّ لِنَفْيِ الباطل وَطَرْدِ الوهم وَنَفْيِ الخيال الذي قد يقع في ذهن الإنسان المتشكك المرتاب في أحوال عالم البرزخ وعالم الآخرة وغيرها من العوالم الأخرى كالنشر والبعث والحشر والحساب وهذا معني يدركه الإنسان العربي البسيط الذي يعرف أن كلمة (حقيقية) تعني حقيقة وهي ما يقابل الوهم والخيال والمثال فحَقِيقِيَّة: أي ليست بوهميَّة وهذا هو المقصود بعينه وهذا هو مفهومنا وتصورنا لهذه القضية

ولقد تضافرت الأحاديث والآثار التي تثبت أن الميت يسمع ويحسُّ ويعرف سواءٌ كان مؤمناً أم كافراً فمنها حديث القليب وهو ثابت في الصحيحين من وجوه متعددة عن أبي طلحة وعمر وابنه عبد الله (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فألقوا في طوي من أطواء بدر فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَمَّاهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة يا فلان بن فلان أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني قد وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا) فقال عمر: يا رسول الله ما تُكلم من أجسادٍ لا أرواح فيها فقال عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون)

وهكذا رواه الشيخان من حديث ابن عمر والبخاري من حديث أنس عن أبي طلحة ومسلم من حديث أنس عن عمر ورواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح ومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه وفيه: قالوا: يا رسول الله وهل يسمعون؟ قال (يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون) ومنها ما رواه البزار وصححه ابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم (أن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين)

وأخرج ابن حبان أيضاً من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نحوه في حديث طويل وقال البخاري في صحيحه - باب الميت يسمع خفق النعال - ثم روي عن أنس عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (العبدُ إذا وُضِعَ في قبره وتولَّي وذهب أصحابه حتي أنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه) وذكر الحديث في سؤال القبر ورواه مسلم أيضاً وسماع الميت خفق النعال واردٌ في عدة أحاديث ومنها الأحاديث الواردة في سؤال القبور وهي كثيرة منتشرة وفيها التصريح بسؤال الملكين له وجوابه بما يطابق حاله من سعادة أو شقاء ومنها ما شرعه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأمته من السلام على أهل القبور ومخاطبتهم بلفظ (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)

قال ابن القيم: وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل لولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد والسلف مُجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحيِّ له ويستبشر به ثم ذكر جملة منها في كتاب الروح فليراجع وهذا الذي قلناه هو عقيدة السلف الصالح وهم أهل السنة والجماعة فلا أدري كيف يغفل هؤلاء الذين يدعون أنهم على مذهب السلف عن هذه الحقيقة؟ وقد أفاض الشيخ ابن القيم في كتاب الروح بما يشفي ويكفي

وننقل هنا فتوي عظيمة لشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في هذا الموضوع كما جاء في الفتاوى الكبرى: سئل الشيخ عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم؟ هل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره؟ فأجاب: الحمد لله نعم جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعَرْضِ أعمال الأحياء على الأموات كما روي ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري قال (إذا قُبِضَتْ نَفْسُ المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله كما يلتقون البشير في الدنيا فيقبلون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم يستريح فإنه كان في كرب شديد قال: فيقبلون عليه ويسألونه: ما فعل فلان؟ وما فعلت فلانة؟ هل تزوجت؟) الحديث وأما عِلْمُ الميت بالحيِّ إذا زاره وسلَّم عليه ففي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ أحدٍ يَمُرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عَرَفَهُ وردَّ عليه السلام) قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه عبد الحق صاحب الأحكام (أ. هـ.)[1]

وجاء في موضع آخر أيضا سئل الشيخ ابن تيمية: هل الميت يسمع كلام زائره ويري شخصه؟ وهل تُعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟ وهل تُجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين نعم يسمع الميت في الجملة كما ثبت في الصحيحين عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه) ثم ساق أحاديث متعددة في هذا المعني ثم قال: فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا ينبغي أن يكون السمع له دائماً بل قد يسمع في حال دون حال كما يعرض للحيِّ فإنه قد يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي بقوله{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعني فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعني فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهي عنه فلا ينتفع بالأمر والنهي وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعني كما قال تعالى {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ} وأما رؤية الميت فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيــرها وأما قول القائل هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟ فإن روحه تعاد إلى البدن في ذلك الوقت كما جاء في الحديث وتعاد أيضا في غير ذلك ومع ذلك فتتصل بالبدن متي شاء الله وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم وهذا جاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور قال مجاهد: الأرواح تكون في أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه فهذا يكون أحياناً وقال مالك بن أنس: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت والله أعلم. أ.هـ[2]

وقال الشيخ ابن تيمية في موضع آخر: أما ما أخبر الله من حياة الشهيد ورزقه وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهبت طوائف إلى أن ذلك مختصٌّ بهم دون الصديقين وغيرهم والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصاً بالشهيد كما دلَّت على ذلك النصوص الثابتة ويختص الشهيد بالذكر لكون الظانّ يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة كما نَهَي عن قتل الأولاد خشية الإملاق - لأنه هو الواقع - وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق أهـ[3]

رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد اتكأ على قبر فقال له (لا تؤذ صاحب القبر) ذكره المجد ابن تيمية في المنتقي (ج2 ص104) وعزاه لأحمد في المسند وكذا الحافظ ابن حجر في الفتح (ج3 ص178) وقال إسناده صحيح وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار (ج1 ص296) من حديث ابن عمر وابن حزم بلفظ: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَبْرٍ فقال (انزل عن القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك)[4] أ هـ

وينبغي أن نبين للناس معني تلك الحياة وأنها حياة برزخية وأنها ليست كحياتنا هذه بل هي حياة خاصة لائقة بهم وبالعالم الذي هم فيه لكن لابد أن نبين لهم أيضاً أنها ليست كحياتنا لأن حياتنا أقل وأحقر وأضيق وأضعف فالإنسان فيها بين عبادة وعادة وطاعة ومعصية وواجبات مختلفة لنفسه وأهله ولربِّه وأنه تارة يكون طاهراً وتارة يكون على ضد ذل وتارة يكون في المسجد وتارة يكون في الحمام وأنه لا يدري بِمَ يُختم له؟ فقد يكون بينه وبين الجنة ذراع ثم ينقلب الأمر رأساً على عقب فيصير من أهل النار وبالنقيض أما في البرزخ فإنه إن كان من أهل الإيمان فإنه قد جاوز قنطرة الامتحان التي لا يثبت عندها إلا أهل السعادة ثم إنه قد انقطع عنه التكليف وأصبح رُوحاً مشرقة طاهرة مفكرة سيَّاحة سبَّاحة جوَّالة في ملكوت الله وملكه سبحانه وتعالي لا همٌّ ولا حَزَِن ولا بأسٌ ولا قلق لأنه لا دنيا ولا عقار ولا ذهب ولا فضة فلا حسد ولا بغي ولا حقد وإن كان غير ذلك ففي نقيض ذلك

[1] مجموع فتاوي الشيخ ابن تيمية ج24 ص331
[2] مجموع الفتاوي الشيخ ابن تيمية ج24 ص362
[3] مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية ج24 ص332
[4] مجمع الزوائد ج3 ص61

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]