أرض الرباط ومهد الرسالات

تتميّز المنطقة العربية عن غيرها من بقاع العالم بكونها تتوسط الكرة الأرضية ، وفيها ظهرت الرسالات السماوية الثلاث الموسوية ، والمسيحية ، والإسلام ، حيث شرفت الجزيرة العربية قبل أكثر من خمسة عشر قرناً بمولد نور فجر جديد عندما ظهر الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام ، حاملاً دعوة الإسلام إلى كل الدنيا ، وقدّر الله أن تكون هذه الأرض مهبط الوحي ، وهوى الأفئدة ، وقبلة المسلمين . ففيها بيت الله الحرام في مكة المكرّمة ، والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنوّرة ، والمسجد الأقصى "أولى القبلتين" في فلسطين . لذلك ، سيبقى الصراع على هذه المنطقة قائماً إلى آجال بعيدة في المستقبل ، ولن ينعم أهلها بالراحة والأمان ، لأنهم ـ كما قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام ـ في رباط إلى يوم القيامة . ومعنى ذلك ، أنهم سيظلون يتعرّضون للغزاة ، وسيظلون مستعدين للدفاع عن أوطانهم . ولا توجد منطقة أخرى في العالم شهدت ما شهدته هذه المنطقة من صراعات عبر تاريخها الطويل . وفي كل مرة ، كان السبب في هذه الصراعات هو العدوان الخارجي . فقبل الإسلام كانت بلاد العرب موزّعة بين الروم في الغرب ، والفرس في الشرق ، وكان الفرس ينجحون أحياناً في بسط نفوذهم على سوريا ومصر . لكن الروم لم يكونوا يلبثون حتى يعيدوا هذه البلاد إلى سيطرتهم ونفوذهم . وكانت تدور أثناء ذلك صراعات كبيرة يدفع ثمنها ساكنو هذه الأرض من دمائهم وأموالهم . وعندما ظهر الإسلام في القرن السادس الميلادي ، كان الفرس يسيطرون على العراق ، والروم على سوريا ومصر وبلاد المغرب . وقد نجح العرب المسلمون في توجيه ضربة قاصمة للروم في معركة اليرموك عام 15 للهجرة ، وأخذوا منهم سوريا ومصر وبلاد المغرب . كما أنهم نجحوا أيضاً في تدمير الإمبراطورية الفارسية عام 16 للهجرة ، وفتحوا العراق وبلاد فارس حتى وصلوا إلى الهند . وتعاظمت قوة العرب وسادوا على كل شعوب الدنيا ، ومرّت ثلاثة قرون كانت لهم فيها الكلمة القاطعة . لكن الأوروبيين الذين ساءهم ما حلَّ بهم على أيدي العرب المسلمين ، وساءهم أن يروا فلسطين مهد المسيح قد أصبحت في أيدي من يسمّونهم "الوثنيين" أي المسلمين ، استنفروا قواهم ليعيدوا سيطرتهم عليها ، وليستعيدوا مركزهم الذي فقدوه في الشرق . فحدثت الحروب الصليبية في القرن الخامس الهجري "الحادي عشر الميلادي" . وجاء الأوروبيون بآلاف مؤلفة غازين سوريا وعلى صدر كل منهم تمَّ رسم إشارة الصليب في دلالة على أن حربهم هذه هي حرب دينية بالدرجة الأولى . وكانوا حاملين معهم ما يسمى "صليب الصلبوت" أو الصليب الذي يقولون إن المسيح صُلب عليه . ونجحوا في احتلال معظم المشرق العربي ، وبنوا مستعمرات أوروبية فيه ، ودخلوا مع العرب والمسلمين في صراع هائل تمحور حول هوية ومستقبل هذه المنطقة . وقد سقط من جراء هذا الصراع مئات الآلاف من العرب ، وتخرّبت بلدانهم ، وتمسك العرب بحقهم في المقاومة ، وثابروا على الجهاد . ورغم المعاناة الشديدة التي تكبّدوها بسبب حجم الإمدادات التي كانت تصل إلى المستعمرين بشكل مستمر من أوروبا ، إلاّ أن المسلمين تمكنوا في النهاية ، وبعد مرور قرنين من الصراع ، من طرد المستعمرين وأعادوا لهذه البلاد وجهها العربي الإسلامي . غير أن فشل الأوروبيين في تلك الحروب الطويلة ، لم يمنعهم من التفكير بسوريا وبأرض الجليل ، حيث مشى الإله المتجسّد (المسيح) ، وحيث أظهر البراهين الدالة على "ألوهيته" فظلوا يحلمون بالعودة إلى الشرق . وبعد أن تآكلت قوة العرب والمسلمين ، وتفوّق الأوروبيون عليهم ، عاد هؤلاء إلى الشرق منذ القرن التاسع عشر ، لكنهم لم يعودوا إلى الاستيطان فيه ، بل دفعوا اليهود ليقوموا بهذه المهمة نيابة عنهم ولمصلحتهم . فقدَّموا لهم أرض فلسطين ، بقدسها وجليلها ونهرها وبحرها ، هدية، وأمدّوهم بالقوة والسلطان وجلسوا هم يحمون ظهور المستعمرين الجدد . وعادت الحروب الصليبية من جديد ، بهيئة استيطان يهودي هدفه بالدرجة الأولى ، نزع مهد المسيح من أيدي المسلمين . ومخطئ من يظن أن الصراع الدائر الآن ، هو صراع بين العرب واليهود ، لأن المسألة أكبر من ذلك بكثير . فاليهود ليسوا سوى واجهة لعالم غربي مسيحي مصمم على انتزاع فلسطين ، وربما سوريا كلها من أيدي العرب بشكل نهائي ، لأن الغربيين لا يطيقون أن يروا للعرب والمسلمين سلطة أو وجوداً في تلك البلاد. وهذه هي الحقيقة التي تدفع الغربيين للدفاع عن إسرائيل والالتزام بما يسمى "أمنها وحقها في الوجود" . ولا يهمُّ أن يكون هناك خمسة ملايين فلسطيني مشرَّدين من أرضهم في فلسطين ، لأن هؤلاء في النهاية ، عرب ومسلمون ، ولا يجوز أن يبقى لهم وجود في هذه الأرض التي ينبغي ألاّ تعود للعرب مطلقاً . ومن هنا ، فإن الصراع القائم هو صراع حضاري يتواجه فيه الغرب المسيحي مع الشرق المسلم . ولن ينجح المشرقيون في هذا الصراع ما لم تظهر فيهم قوة قاهرة تكون قادرة على الانتصار على الغرب أولاً ، وبعد ذلك سيزول هذا الاستيطان من تلقاء ذاته . أما وإن العرب والمسلمين ما زالوا ضعفاء ، فإنهم لن يحلموا بتحرير فلسطين ، وستبقى دماؤهم مهدورة ، وأرضهم مستباحة . وسيبقى الصراع قائماً ، وستبقى هذه المنطقة متوتّرة تعيش في فوضى ، وفي حال من الخوف وانعدام الأمن

منقول للكاتب الاماراتي محمد خليفة