صلّوا معنا من اجل مصرعبد الباري عطوان
تشهد مصر هذه الايام تطورات على درجة كبيرة من الخطورة، تتداخل فيها اعتبارات داخلية ومؤامرات خارجية، والهدف هو خلق حالة من البلبلة، واسقاط هيبة الدولة، او ما تبقى منها، واغراق البلاد في ازمات معيشية متفاقمة، وبما يؤدي الى وأد الثورة في مهدها، او حرفها عن مساراتها التي انطلقت من اجلها في نهاية المطاف.
كنت محظوظا عندما عشت وتابعت، المرحلة الانتقالية التي مرت بها البلاد من عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وعهد خلفه محمد انور السادات، وكيف انقلبت الامور من النقيض الى النقيض على مختلف الصعد في اطار خطة مدروسة باحكام لتكريه الشعب المصري بالاشتراكية والناصرية والعروبة والكرامة الوطنية.
في السنة الاخيرة من العهد الناصري، كانت مصر تخوض حرب استنزاف شرسة ضد الاحتلال الاسرائيلي، وتخصص الجزء الاكبر من ميزانيتها للمجهود الحربي واعادة بناء القوات المسلحة، من خلال تحديث الجيش وتزويده باسلحة متطورة، ومع ذلك كانت الجمعيات التعاونية مليئة بكل انواع السلع وباسعار في متناول الانسان البسيط والفقير، والأمن كان في ذروة استقراره وانضباطه، والخدمات العامة من صحة ومواصلات عامة وتعليم على افضل صورة، رغم وجود مئات الآلاف من المهجرين من مدن قناة السويس التي دمرتها الغارات الاسرائيلية.
بعد اقل من عام من وفاة الزعيم عبد الناصر وتولي السادات مقاليد السلطة، بدأت البلاد تدخل في مرحلة مختلفة تماما، انتقال تدريجي متسارع نحو 'الانفتاح' الاقتصادي وما يتطلبه ذلك من رفع الدعم عن السلع الاساسية، وجاءت النتيجة ازمات متفجرة، وارتفاعا مذهلا في الاسعار، ونقصا حادا في المواد التموينية، حتى بات الشغل الشاغل لصحف الدولة هو الحديث عن اختفاء الدجاج والبيض والطوابير الطويلة امام الجمعيات للحصول على بعض منها.
مصر الآن تعيش مرحلة مماثلة، وبعد عام من نجاح ثورة شعبها المجيدة، فجأة هناك ازمة بنزين، وفجأة هناك ازمة في المواد التموينية.. وفجأة ارتفاع مفجع في الاسعار.. غلاء فاحش في كل مكان.. وفوق هذا وذاك انهيار شبه كامل في الامن، فمن كان يصدق ان تصبح عمليات الخطف والاغتصاب خبرا اعتياديا وموضوعا اساسيا محوريا في مقالات الكتاب. وبرامج 'التوك شو' التلفزيونية؟
' ' '
نعم هناك مؤامرة تستهدف مصر.. نعم نحن نؤمن بنظرية المؤامرة عندما نتابع المشهد المصري وتطوراته المرعبة.. نعم هناك قوى تريد افشال الثورة المصرية وتكريه الشعب مفجرها بها، ودفعه الى الندم عما فعل، والحنين الى نظام سابق غارق في الفساد والقمع واذلال المواطن وتهشيم دور مصر ومكانتها الاقليمية والعالمية.
هناك من يريد تشويه صورة الثورة المصرية بالازمات المعيشية والانهيارات الامنية، فهل من قبيل الصدفة ان تمتد طوابير السيارات امام محطات البنزين عدة كيلومترات، وبعد عام فقط من قيام الثورة، رغم ان الوكيل نفسه، والمصافي المصرية هي نفسها ولم يتغير اي شيء على الاطلاق، الامر الذي يذكرنا بطوابير الدجاج امام الجمعيات التعاونية في مطلع عهد السادات؟
من خطط لتكريه المصريين بالاشتراكية والناصرية بافتعال الازمات، هو نفسه الذي يخطط حاليا لتكريههم بالثورة وانجازها الاعظم في الاطاحة بنظام التبعية والفساد. ففلول النظام ليسوا فقط من بعض ضباط الشرطة او ما تبقى من مافيا رجال الاعمال، وانما ايضا من الكثير من الجمعيات والمنظمات الاجنبية التي نخرت الوسط الاجتماعي والسياسي المصري مسلحة بمئات الملايين من الدولارات، تشتري الذمم، وتستغل البطالة في اوساط الشباب.
لنبدأ من الآخر مثلما يقول أخواننا المصريون ونؤكد ان الولايات المتحدة واسرائيل ومعهما معظم الدول الخليجية لا تريد مجتمعة او متفرقة حكما رشيدا في مصر يفكر، مجرد التفكير، باعادة الكرامة والهيبة والمكانة لمصر، والغاء او تعديل اتفاقات كامب ديفيد، والكف عن لعب دور الحارس الامين للحدود الاسرائيلية، والخادم المطيع لمشاريع الهيمنة الامريكية في المنطقة.
امريكا واسرائيل لا تريدان رئيسا اسلاميا لمصر، اللهم الا اذا جاء في اطار صفقة تتمحور حول الحفاظ على اسرائيل دولة اقليمية مهيمنة في المنطقة، واستمرار التبعية لامريكا وسياستها في المنطقة، ولهذا تتكشف محاولات تركيع الشعب المصري وتجويعه، والا ما معنى هذا العزوف الشرس عن تقديم اي مساعدات مالية او استثمارية لمصر، سواء من الغرب او من الدول الخليجية التي لا تعرف حجم ما تملكه من اموال، وتستثمر في كل مكان معروف او مجهول في العالم؟
المعركة المحتدمة حاليا حول الرئاسة مفهومة، فمن يتولى هذا المنصب يتحكم بالمؤسسة العسكرية، باعتباره القائد الاعلى للقوات المسلحة، وبالسياسة الخارجية، واخيرا الامن القومي، وهذا المثلث من المسؤوليات هو مصدر الهم الرئيسي الذي يقلق الولايات المتحدة واسرائيل.
النخبة السياسية، والاخوان المسلمون القوة السياسية الاضخم في مصر تعيش حالة من التخبط غير مسبوقة، وفي المقابل هناك مجلس عسكري يتبنى مواقف غامضة باطنية ويحتفظ باوراقه حتى اللحظة الاخيرة، ويلعب على جميع الحبال في الوقت نفسه.
جماعة الاخوان فاجأتنا، مثلما فاجأت اعضاءها، بالتخلي عن مواقفها السابقة بعدم الزج بأي مرشح لها في حلبة المنافسة على الرئاسة، وكشفت عن السيد خيرت الشاطر كممثل لها في هذه المعركة، لتشق نفسها، وتخلق بلبلة في ظرف حساس يحتاج الى الوحدة والتماسك.
النظريات كثيرة ومتعددة احداها تقول ان الاخوان يريدون قطع الطريق على المرشح السلفي حازم ابو اسماعيل الذي تخشاه امريكا بسبب شعبيته المتزايدة ومعارضته لاتفاقات كامب ديفيد ومطالبته الصريحة بالغائها. وثانية تقول ان هناك صفقة بين الاخوان والمجلس العسكري بتشتيت الاصوات بما يؤدي الى فوز السيد عمرو موسى، او اللواء السابق احمد شفيق، وثالثه تفيدنا بان المجلس العسكري سيحسم الامر في النهاية وبعد خلق فوضى الترشيحات، بالكشف عن المشير طنطاوي كمرشح 'وسطي' يجب ان يلتف حوله الجميع.
' ' '
لا نعتقد ان جماعة الاخوان المسلمين لا تعرف مسبقا بخطورة ما اقدمت عليه عندما رشحت السيد الشاطر وتبعات هذه الخطوة داخلها وهي التي تعاني هذه الايام من شروخ عديدة، وستكون كارثة اكبر اذا كانت لا تعرف هذه الامور البديهية التي يعرفها اصغر محلل سياسي في ارض الكنانة.
هناك من يجادل بانه من حق الاخوان، وهم الحزب الاكبر الفائز باكبر عدد من الاصوات في الانتخابات البرلمانية، ان يحتل كل المناصب في الدولة، طالما ان هذا الاحتلال يأتي من خلال عملية ديمقراطية وانتخابات حرة نزيهة. هذا جدل في محله لا غبار عليه، فحزب العدالة والتنمية التركي احتل جميع المناصب الرئيسية في الدولة من رئيس الجمهورية الى رئاسة الوزراء الى رئاسة البرلمان ومعظم الوزارات السيادية. ولكن مصر ليست تركيا، وحركة الاخوان فيها ليست مثل حزب اردوغان، كما ان اختيار اردوغان للمنصب الاهم لم يقسم حزبه ويدفع الكثيرين للانسحاب منه مثلما يحدث حاليا في مصر.
نخشى على مصر من هذا التخبط، نقولها للمرة الالف، ونضع ايدينا على قلوبنا ومعنا كل الذين فرحوا بنجاح الثورة وسقوط نظام الفساد.. نخشى على مصر من نخبتها السياسية، مثلما نخشى عليها من قلة خبرة العسكر السياسية، قبل ان نخشى عليها من مؤامرات امريكا واسرائيل وفلول النظام السابق.
المستقبل يحمل في طياته ملامح مقلقة، ولكن ما يطمئننا ان الشعب المصري على درجة كبيرة من الوعي، وهو كفيل بقلب الطاولة على رؤوس الجميع اذا رأى ان هناك من يتلاعب بطموحاته المشروعة في الكرامة والحكم الرشيد.. الثورة المصرية الثانية قادمة وستكون مزيجا من ثورة الجياع وثورة من يريدون اطاحة هذه النخبة التي تتنافس على كرسي الحكم وليس مصلحة الشعب وفقرائه ومطحونيه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]