جاء اتفاق الحكومة الصومالية برياسة الشيخ شريف أحمد مع جماعة أهل السنة الصوفية بالصومال علي تقاسم الحكم والسلطات في الصومال ليعيد للأذهان وإلي ساحة الأحداث دور الطرق الصوفية في الأحداث السياسية، واشتراكها في تسيير دفة الحكم في بلد مسلم في وقت تطول فيه الصومال أيدي التمزيق والفرقة من كل مكان، حتى صار الصومال البلد المسلم الكبير بمثابة عدة بلدان أو دويلات صغيرة، تتصارع علي الحكم فيه الكثير من التيارات المتعارضة التي تسهم في النهاية من حيث دريت أم لا تدري في خراب البلاد وشقاء العباد، حتى صار الصومال بحق أخطر بقاع العالم وأكثرها اضطراباً وقلقاً، ولكن كان لدخول الطرق الصوفية معترك السياسة في بلد شديد الخصوصية والالتهاب والتفجر الداخلي لابد أن نقف عنده طويلاً لنتأمله ونستخرج دلالاته.
الصوفية والسياسة
الصوفية منذ أن نشأت كحركة تدين مغلوط مستوردة من الهند وإيران في أواسط القرن الثاني الهجري كرد فعل سلبي علي حالة الترف الذي أصابت المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، هذه الحركة منذ أن ظهرت وهي تمارس أعلي درجات الانكفاء علي الذات من أجل تطهير النفس والبعد عن مخالطة الناس، ولقد اختارت الصوفية البعد تماماً عن مشاركة الناس شؤونهم، واعتزلت المناصب والأعمال والولايات وسائر أمور السياسة، ورضيت بالانسحاب من خانة العناصر الفاعلة في المجتمعات الإسلامية .
ولقد بالغت أدبيات الطرق الصوفية في الإنكار علي من خالط السلطان وأقحم نفسه في شؤون الحكم، واعتبرت أن ذلك الأمر من قبيل نواقص التصوف والانبهار بالحياة الدنيا، وأجمعت تلك الأدبيات علي ترك الأمور السياسية لأهلها، عدم الخوض في تلك المسائل ولو كانت من أهم مشكلات الأمة، لذلك فلم يعلم عبر التاريخ الإسلامي اهتمام الصوفية بأحوال المسلمين العامة ومشاكلهم العالمية، بل إن الجهاد بمعناه الواسع لم يذكر يوماً في أدبيات الصوفية، فكتاب إحياء علوم الدين الذي يمثل دستور التصوف الأول، خلا من الكلام عن الجهاد ضد أعداء الأمة علي الرغم من كون مؤلفه أبي حامد الغزالي قد كتبه بالشام في ذروة الاكتساح الصليبي لبلاد الشام وعقب سقوط بيت المقدس بيد الصليبيين، ونتيجة لهذا التصور السلبي الإنكفائي للصوفية كانت العلاقة دائما بين الحكم والصوفية علي ما يرام، فالصوفية تؤيد السلطة الحاكمة مهما كانت حالها ووضعها، والسلطة الحاكمة في حالة رضا دائم عن كل الطرق الصوفية باختلاف أنواعها .
الاحتلال والطرق الصوفية
كما كانت نظرة الطرق الصوفية تجاه الحكم والسياسية نظرة سلبية غير سوية، فأن نظرتهم تجاه الاحتلال الأجنبي لبلاد الإسلام كانت نظرة متباينة يشوبها الكثير من المتناقضات، ففي الوقت الذي قامت فيه الطريقة السنوسية بمقاومة الاحتلال الإيطالي في ليبيا لسنوات طويلة وبرز منهم أبطال كبار من عينة أسد الصحراء عمر المختار، وأحمد شريف وغيرهم، نجد أن معظم الطرق الصوفية والتي كان لها نفوذ واسع في الشمال الإفريقي توالي الاحتلال وتقف بجواره في تصديه لحركات المقاومة الإسلامية والوطنية ضد هذا الاحتلال، ففي مذكراته الشهيرة قال الجنرال "بيجو " قائد القوات الفرنسية المحتلة للجزائر : إن الحكومة الفرنسية تعظم زاوية من زوايا الطرق أعظم من تعظيمها لثكنة من ثكنات الجيش الفرنسي، فالذي يحارب الطرق إنما يحارب فرنسا نفسها، ولولا موقف الطريقة التيجانية المتعاطف، لكان استقرار الفرنسيين في البلاد المفتتحة حديثاَ أصعب من ذلك بكثير .
ومن أبرز صور الخيانة الصوفية للأمة المسلمة، ما قام به الشيخ محمد الكبير شيخ مشايخ الطريقة التيجانية المسمي بصاحب السجادة الكبرى عندما ألقي خطبة عصماء بين يدي الكونيول سيكوني الفرنسي سنة 1931، وصف خلالها فرنسا بأنها أم الوطن الكبرى إذ قال: إن من الواجب إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا مادياً وأدبياً وسياسياً، وحين قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بتأسيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، لمواجهة الاحتلال الفرنسي الذي كان يقوم بطمس هوية الجزائريين، تحزبت عليه الطريقة القادرية والشاذلية والعليوية وغيرها من الطرق الصوفية من أجل القضاء علي الجمعية حتى وصل الحال لإقدام بعض المتصوفة لمحاولة قتل الشيخ رحمه الله .
وفي الوقت الذي كان الأمير عبد الكريم الخطابي يقود المغاربة لمقاومة الاحتلال الأسباني في الريف المغربي في أوائل القرن العشرين، كان الشيخ محمد عبد الحي الكتاني شيخ مشايخ الطريقة الكتانية التيجانية يخذل الناس من حوله ويطبع المنشورات المضادة للأمير، ويفتي بحرمة الخروج علي الحاكم الفرنسي والإسباني، والعجيب أن هذا الخائن قد فر إلي فرنسا بعد الاستقلال وظل فيها حتى مات سنة 1961 ميلادية، في نفس السنة التي مات فيها الأمير عبد الكريم الخطابي بالقاهرة، وسبحان الفارق بين الرجلين، بل إن بعض الزوايا الصوفية قد تحولت لأوكار تجسس لصالح الاحتلال، كما هو الحال مع زاوية العليويين بمستغانم الجزائرية كانت أهم المراكز الإستخباراتية للاحتلال الفرنسي بالمغرب العربي .
والعلاقة بين الاحتلال الأجنبي والطرق الصوفية علاقة مشينة قائمة علي تبادل المصالح، فالاحتلال يريد إسلاماً صوفياً منزوع المخالب مستأنساً، لا يعارض ولا يجاهد، يريد مسلمين أموات غير أحياء، يرضون بالذلة والصغار، وفي نفس الوقت يشكرون ويحمدون ويقبلون الأعتاب، ويحجون إلي السفارات، أقصي معارضتهم شجب واستنكار، إن كان هناك ثمة شجب أو استنكار، والطرق الصوفية تريد من الاحتلال أن يجهض أيه مشاريع إصلاحية للنهضة والصحوة الإسلامية، لأنهم يعلمون أن في صحوة المسلمين ضياع لباطلهم وخرافاتهم، فالمجتمعات ستلفظهم، والشعوب سترفض ممارساتهم الضالة، ومآكلهم ومشاربهم من الموالد وصناديق النذور استغفال الشعوب ستذهب إلي غير رجعة، لذلك كان لا عجب دوماً أن يكون الصوفية في صف الاحتلال وأذياله، فعندما قام التحالف الدولي باحتلال أفغانستان كانت الطرق الصوفية من أسعد الناس بسقوط حركة طالبان، ونقل مراسلو الوكالات العالمية مشاهد فرحة المتصوفة الأفغان وهم يهللون لعساكر الاحتلال ويلتقطون الصور معهم، وقد عبر أحدهم عن فرحته بقوله : نحن في غاية الامتنان لأمريكا والتحالف الدولي علي ما قدموه لخدمات للشعب الأفغاني، وإسقاطهم لطلبان، فقد منعنا من عمل الموالد وزيارة الأضرحة وإقامة الاحتفالات، وأول شيء سنقوم به الآن هو إعادة كل هذه الأعياد التي أوقفتها طالبان .
الاحتلال وصناعة الطرق
تنظيم أهل السنة والجماعة هو تنظيم مسلح ظهر فجأة منذ أقل من عامين علي ساحة الأحداث بالصومال المتخم بالحركات المسلحة التي في مجملها حركات إسلامية، وكان لظهوره علامات استفهام كثيرة،منها كيف ظهر هذا التنظيم ؟ و من الذي يموّله ؟، ومن الذي درب أتباعه، وهم صوفية لا بصر لهم بأمور القتال وفنونه ؟، وهل مجرد قيام جماعة الشباب بهدم عدة أضرحة في وسط الصومال ، كان كافياً لأن تقوم العديد من الطرق الصوفية بالانصهار في تنظيم مسلح مثل هذا التنظيم، لتدافع عن وجودها ومعتقداتها ؟
الحقيقة أن هناك العديد من الأطراف الفاعلة في قيام مثل هذا التنظيم الغريب للصوفية، تجمعها النقمة ليس علي حركة الشباب فحسب ولكن علي استقرار الصومال، وعودة الأمن والهدوء إليه، أطراف تنتفع من بقاء الصومال ممزقاً يتناحر أبناؤه، علي رأس هذه الأطراف أثيوبيا صاحبة الأطماع التاريخية في الصومال، والتي تريد تكريس هيمنتها ووجودها في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة من العالم، ومنها أيضا أمريكا ودول التحالف العالمي ضد الإسلام، والتي تريد تطويق العالم الإسلامي من كل ناحية وإجهاض أي جماعة مسلحة تحارب لإعلاء كلمة الإسلام، ومنها أيضا أمراء الحرب القدامى الذين فقدوا كثيراً من امتيازاتهم ومنافعهم التي كانوا يحلبونها من قوت الشعب الصومالي، وكانوا هم أس بلاء هذه البلاد، منها شيوخ عشائر وزعماء قبليين أساءت حركة الشباب التعاطي مع خلفياتهم ومكانتهم الاجتماعية عكس ما كانت تفعله المحاكم الإسلامية إبان حكمها للصومال من قبل .
وكان ظهور مثل هذا التنظيم، وبما أبداه في الفترة السابقة من قوة وتمويل كبير موحياً بأنه سيكون لاعباُ جديداً علي ساحة الأحداث بالصومال، وسيمثل قوة معادلة جديدة لقوة حركة الشباب، لذلك سارعت الحكومة بالاتفاق معها علي تقاسم السلطة من أجل الاستفادة بها وبمن يقف ورائها في دعم الحكومة القائمة، وفي رأيي الخاص أن هذه مغامرة كبيرة قد أقدمت عليها الحكومة الصومالية،وذلك لأن أمثال هذه التنظيمات التي قامت بأيدي خارجية تجمعها أجندة خفية أساسها عدم مصالحة الصومال لن يقبلها الشعب أبداً، بل لن يكون لها دور في المستقبل إذا انتهي الغرض من قيامها، كما أن كثيراً من الطرق الصوفية داخل الصومال تعارض هذا التنظيم وتنظر إليه نظرة مريبة من حيث النشأة والأهداف، كما أن ظهور هذا التنظيم سيؤدي لتفاقم الوضع الداخلي بالصومال الذي يحتاج لاستعادة أمنه واستقراره وخروج المحتل الأثيوبي منه، فالصومال يعان يمن كثرة تنظيماته المتعارضة، فما بالك بظهور تنظيم جديد يزيد الوضع الداخلي اضطراباً .
الحكومة الصومالية تظن أنها بالاتفاق مع الصوفية تحسن صنعاً وتقيم نظاماً إسلامياُ، ولكنها لا تدري أنها تزيد الوضع سوءً، وتساهم في بلاء البلاد، فمتى كان الصوفية حكاماُ أو ساسة ؟ ومتى كانوا مقاتلين يعملون علي تحرير البلاد من الاحتلال الخارجي؟ بل متى كانت الصوفية حلاً لأي أزمة من أزمات العالم الإسلامي ؟ وهم أساساً أحد أسباب بلاء الأمة؟

هذا رايي الخاص الذى لا يلزم المنتدى فى شيء