مع أفول الدولة الإسلامية وبدء الحملات الصليبية على الشرقيين الأدنى فالأقصى، واجه المسلمون فى الصين الكثير من المتاعب والمضايقات فى سبيل الاحتفاظ بعقيدتهم. وكانت أقصى حملات التنصير تلك التى واجهوها فى مطلع القرن العشرين. وذلك لأن الصين لما تشكله من كثافة سكانية كانت محط أنظار المبشرين الغربيين، وخصوصا بعد أن رضخت للسيطرة الأوربية إذ كان المبشرون يلقون كل الدعم فى نشاطاتهم ضمن مخطط استهدف التغريب الثقافي-الروحي المترافق مع التغريب السياسي-الاقتصادي. غير أن المساعي التبشيرية تلك وإن كانت وجدت لها أراضى خصبة بين الكونفوشيوسيين والبوذيين الصينيين إلا أنها اصطدمت بوجود إسلامي قوى يغطى مساحات واسعة من أراضى الصين وتبين أن للمسلمين ثقافة دينية راسخة لم تستطع البعثات التبشيرية التأثير بالسهولة التى كانوا يتوقعونها. لذلك كان من الضروري -من وجهة نظرهم-دراسة واقع المسلمين بدقة من أجل وضع المخططات اللازمة لإنجاح حملات التنصير.

وفى مطلع القرن العشرين انعقد فى أدنبرة (إسكوتلاندا) المؤتمر التبشيري العالمي. ونص أحد القرارات التى اتخذت فى المؤتمر على تشكيل لجنة مهمتها دراسة سبل إقامة بعثة تبشيرية دائمة فى الصين للعمل تحديدا فى صفوف المسلمين. وتشكلت اللجنة من ثلاث أشخاص جوت موت (رئيسا) وهارلان بيتش وصموئيل زويمر (عضوان) وعهدت هذه اللجنة إلى المبشر مارشال برومهول بإعداد تقرير شامل عن أوضاع المسلمين فى الصين يكون أساسا تبنى عليه خطة التبشير المسيحي لاحقا.

وفى ضوء دراسة برومهول عادت حملات التبشير المدعومة استعماريا لتركيز نشاطاتها مجددا فى إقليم سنكيانج وقانصو وشانسى ذات الكثافة السكانية المسلمة التى كانت تعرف باسم (شرق تركستان). ونتج عن هذه الحملات هجرة الآلاف من المسلمين إلى بلدان آسيا والشرق الأوسط. وأحفاد هؤلاء كانوا يعرفون فى الغالب بـ "البخاريين" نسبة إلى بخارى التى كانت عاصمة إقليم فى أواسط آسيا أطلق عليه الاسم ذاته وهو اليوم الدولة المعروفة باسم أوزبكستان. وكانت مديتنا بخارى وسمرقند فى آسيا الوسطى تجمعين مزدهرين للحضارة الإسلامية خلال القرنين الرابع عشر الخامس عشر وكانت تركستان القديمة تضم أراضى من الصين وجمهوريات آسيا الوسطى وصولا إلى أفغانستان .. ويقع هذا الإقليم المترامي الأطراف الذى كان يقطنه الناطقون بالتركية قبل 15 قرنا على "الطريق الذهبي" الذى اتبعه الرحالة الإيطالي ماركو بولو فى أسفاره.

وكانت تركستان القديمة من أوائل الشعوب الناطقة بالتركية التى عملت فى الزراعة.

وأشاد هذا الشعب المدن وأقام الدولة وسعى إلى المحافظة على نقاء عرقه وثقافته. وكان المسلمون التركستانيون يعرفون عام 1760 بـ "الأويغوريين" الذين فقدوا دولتهم أمام جحافل القوات الصينية التى أطلقت على هذا الإقليم بعد استيلائها عليه اسم سنكيانج أو "الحدود الجديدة".

وهرب الكثير من القبائل التركستانية هناك إلى أماكن أخرى من آسيا الوسطى التى أصبحت فيما بعد جزءا من القيصرية الروسية.

وهب الأويغوريون فى وجه الاحتلال الصيني مئات المرات وحققوا فى بعضها استقلالا مؤقتا. وخلال الأربعينيات من القرن الجاري أعيدت السيطرة الاستعمارية على هذه الأقاليم وخضعت لسيطرة الجنرال الصغير آنذاك جانغ كاى شيك. لكن إقليم سنكيانج البعيد عن أواسط آسيا ارتبط على الدوام بعلاقات أوثق وأمتن مع الاتحاد السوفيتي السابق منذ مطلع الثلاثينيات.

وفى عام 1944 اندلع تمرد جديد فى مناطق الأقاليم الشمالية المحاذية للاتحاد السوفيتي بحدود طولها 3 آلاف كيلو متر. وفى يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام أعلن قيام جمهورية تركستان فى مدينة غولجا إلا أن الأمر لم يصل إلى الاستقلال واقتصر على الحكم الذاتي.

قدم جوزيف ستالين-الزعيم السوفيتي آنذاك -المساعدات للحكومة المؤقتة التى كان يعتبرها عنصر توازن فى وجه قوة الصين المتعاظمة. وفى الوقت عينه أرسل ستالين خبراء فى علم الأعراق البشرية ليقسموا الأجزاء الجنوبية المضطربة عن الاتحاد السوفيتي إلى عدد من الجمهوريات الصغرى مما سمح لموسكو بممارسة سلطة أوسع فى تلك البلاد .

وبرزت نتيجة لذلك جمهوريات أوزبكستان وتركمنستان وقازاقستان وقيرغيزستان وطاجيكستان. غير أن مساعي السلطات الشيوعية فى كل من بكين وموسكو لم تنجح فى إحلال الولاء الوطني محل الهوية الدينية أو القومية لشعوب هذه الجمهوريات فى مناطقها إذ حافظ التركستانيون على هويتهم الثقافية واللغوية والعرقية وتمسكوا بجذورهم وفى خريف 1949 تواترت الأنباء عن مقتل زعيم تركستان الشرقية، أحمد جان قاسمي إلى جانب وفد من أبرز قادة الجمهورية فى حادث تحطم طائرته خلال رحلة إلى بكين للاشتراك فى الجلسة الأولى لـ "المؤتمرات الشعبية السياسية الاستشارية" للصين. ومنذ ذلك الحين تشكك الفئات القومية الأويغورية بوصف السلطات الصينية ذلك الحادث بأنه "قضاء وقدر". ويعتقد الكثير من المؤرخين أن قاسمي والوفد المرافق له قتلوا فى مؤامرة حاكه الشيوعيون الصينيون والسوفيت.

وتعود أهمية إقليم سنكيانج بالنسبة للصين إلى موقعة الجغرافي وموارده الطبيعية بما فى ذلك النفط و الذهب والبلاتين والنحاس والحديد. وكذلك إلى مساحته الشاسعة إذ يشكل حوالي 17 فى المائة من مساحة الصين، بينما الكثافة السكانية فيه لا تتجاوز الواحد فى المائة بالنسبة لعدد الصين الإجمالي.

وقبل العهد الشيوعي كان المسلمون فى الصين يواجهون الاضطهاد الديني لكن بشكل عشوائي وغير منظم وبالتالي لم يهدد ثقافتهم بالذوبان. أما فى مرحلة الشيوعية فراحوا يواجهون آلة ضخمة من التشويه والطمس الأيديولوجي المنظم المدعوم بالسلطة والمال على مستوى الترقيات الوظيفية أو العلاوات فى الرواتب والأجور كذلك أحقية التوظيف.

وعمليات "المركسة" التى أعدتها السلطات الشيوعية كانت شاملة حين طالت المدارس منذ المراحل التأسيسية من المعاهد والجامعات والنقابات ومختلف القطاعات المهنية فى المجتمع إلى"حلقات التثقيف للراشدين" فى الأرياف والدساكر النائية التى أشرف عليها جيش منظم من الأيديولوجيين العتاة.

أصدرت السلطات الشيوعية مراسيم قررت فيها منع الأطفال من التعليم الديني قبل أن يبلغوا 18 عاما من العمر، وأن يكون التعليم الديني بعد هذا السن فى معاهد تشرف عليها السلطات الشيوعية، وتواصلت الحملات الأيديولوجية على هذا المنوال.

ويقول الباحث التركستاني توخىت أخون أركين أن الغاية من ذلك هو تأهيل الموظفين الذين يستطيعون تطبيق سياسة تسخير الدين لأهداف الحزب الشيوعي، وهذا ما شرحه بالتفصيل كتاب "التوجيه فى تفعيل الاشتراكية بالدين" الذى وضعه قسم الجبهة المتحدة فى الحزب الشيوعي الصيني لولاية كاشغر بالاتفاق مع الإدارة الدينية للأقليات فى محافظة كاشغر إذ ضم الكتاب دروسا ومحاضرات ألقيت فى ندوة ضمت 48 شخصا من رجال الدين و24 شخصا من رؤساء الإدارة الدينية الحكومية و 20 شخصا من مسئولي المكتب السياسي للحزب الشيوعي و 43 شخصا من مدرسي الدين. وعقدت هذه الندوة فى كاشغر بين 9-5 أيلول (سبتمبر) عام 1994.

وصدر عن هذه الندوة قرارات عدة تحارب جميع الأديان ونذكر منها ما يتعلق بمحاربة الدين الإسلامي وهى الآتي:

1-يمنع تنظيم حلقات حفظ القرآن الكريم وتعليم أحكام الدين فى المساجد والمنازل، وأن يتم ذلك فقط فى المعاهد الإسلامية التى تفتح فى المدن الرئيسية تحت إشراف السلطات الشيوعية.

2-أن يكون التعليم الإسلامي مقتصرا على الراشدين الذين تجاوزوا الثامنة عشرة من عمرهم.

3-يمنع ترميم المساجد وإصلاحها أو بناء الجديد منها إلا بإذن رسمي من السلطات الرسمية.

4-يمنع تدخل علماء الإسلام فى الأحوال الشخصية الإسلامية مثل عقود النكاح، الطلاق، الميراث، وتحديد النسل والتعليم وجمع الزكاة أو صرفها.

5- تسخير المفاهيم الإسلامية فى ترويج النظام الشيوعي وتأييد ممارسة السلطات الصينية لأعمالها، ويمنع الإشارة إلى أي مفهوم ديني ينتقد الفكر الماركسي الماوى الشيوعي الصيني .

6-رجال الحزب الشيوعي الصيني لا يمارسون شعائر الدين لأنهم العاملون بنظامه ومنفذو تعاليمه أو لا يحق لأي كان أن يحتقرهم ويسيء إليهم بسبب مواقفهم من الدين .

7- يمنع اتصال الهيئات الدينية ورجالها بالمؤسسات الإسلامية وشخصياتها فى خارج الصين. كما يمنع تلقى المساعدات منهم دون تصريح حكومي، ويمنع السماح لأي عالم أو إمام أجنبي أن يؤم المسلمين أو أن يخطب فيهم فى المساجد .

8-يحظر على غير الإمام الرسمي الإقامة والخطابة، كما تمنع الصلاة أو الوعظ فى غير المساجد التى تفتح بإذن السلطات الرسمية وتحت إشرافها.

ومن يخالف هذه التعليمات يتعرض لأشد الأحكام فظاظة مثل السجن المؤبد أو السجن مع الأعمال الشاقة لفترات تتراوح بين خمسة أعوام و 20 عاما.

وهناك مئات المعتقلين ما زالوا يقبعون فى السجون الصينية لمخالفته هذه القرارات أبرزهم الشيخ إسحاق هان ون مدير المدرسة الإسلامية فى بكين .

وفى ظل حملة التجهيل التى يتعرض لها المسلمون فى الصين يمكن القول أن ثقافتهم الدينية متدنية جدا وفقههم بالإسلام معدوم البتة ويقتصر إسلامهم على الشهادتين فقط وربما على ممارسة بعض العادات والتقاليد الإسلامية وصلتهم بتعليم القرآن والسنة النبوية محدودة للغاية. ولولا صلاة الجمعة وعيدي الفطر ولأضحى ومراسم الزواج الإسلامية التى مازالوا يمارسون طقوسها سرا لتغربوا عن دينهم. حتى صلاة الجماعة حسب بعض التقارير فإن القليل من المصلين يحفظ الفاتحة فهم يقفون شبة صامتين أثناء تأديتهم لفريضة الصلاة، ومعرفتهم باللغة العربية محدودة ذلك أن تراثهم المطبوع أحرق فى معظمة خلال سنوات الثورة الثقافية مما أدى إلى نقص فادح فى مصادر معرفتهم بتراثهم الديني والثقافي .

ولكن أخطر ما يواجه المسلمون فى الصين ليست سياسة التجهيل الديني ولا الثقافي المتبعة ضدهم من قبل السلطات الرسمية، وإنما يواجهون أخطارا أخرى تهدد وجودهم على أرض أجدادهم، ويتمثل ذلك بإجراء التجارب النووية الصينية على أرضهم منذ الستينات، إذ يقع أكبر موقع فى العالم اليوم لتجارب الصواريخ والقنابل النووية قرب بحيرة لوب نور فى صحراء (تاكلا ماكان) فى إقليم سنكيانج، وفى هذا الموقع فجرت الصين أول قنابلها الذرية فى الجو خلال تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1964 .

وواصلت الحكومة الصينية إجراء تجاربها فى هذا الموقع من ذلك التاريخ، وكان أخرها التفجير الذى نفذته فى تشرين الأول (أكتوبر) عام 1992 .

وتقول تقارير الأمم المتحدة إن حوالي مليون شخص على طرفي الحدود الصينية-الروسية كانوا ضحايا هذه التجارب. لقد سقط المئات من الأطفال فى تركستان الشرقية ضحية مرض غريب من أعراضه آلام الأذنين وآلام فى الرأس وإغماء. وتعتقد بعض الجهات الطبية فى الأمم المتحدة أن هؤلاء الأطفال تأثروا بالتجارب النووية .

فهل يدرك المجتمع الدولي مدى فداحة السكوت عن الاضطهاد الديني والثقافي والعرقي الذى يتعرض له المسلمون فى الصين، أم أن الصين دولة قوية وصاعدة على مستوى النمو الاقتصادي وتجد بها رؤوس الأموال الغربية أسواقا مربحة فلذلك يجرى "التطنيش" عن كل ممارستها؟ ومرة أخرى "تتبهدل" شعارات حقوق الإنسان وحرياته فى خواتيم القرن العشرين بسبب تسخيرها للغايات غير الأخلاقية؟ .




منقول