الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد:


فكم تكون العواقب وخيمة وسيئة، على الفرد والمجتمع، حتى يتجافى بعض طلاب العلم والشباب الصالح، عن المشاركة في المجتمع في شتى ميادينه، والتخلي عن مسيرة الإصلاح، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، التي أُمروا بها والانشغال عنها حتى ولو كان بالعمل الصالح أو بطلب العلم، فقد توعد الله تبارك وتعالى من تنكبها وتهاون عن أدائها بالعقاب، فعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم [رواه الترمذي وقال: حديث حسن]. وعن زينب – رضي الله تعالى عنها- قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث [رواه البخاري (3598)]. وقال تعالى: { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممَّن أنجينا منهم واتَّبع الَّذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين . وما كان ربُّك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } [هود:116- 117]. ولم يقل: صالحون، وبالنظر إلى الحديث والآية، يتبين الفرق بين الصالح والمصلح؛ فالصالح بلا إصلاح هالك مع الهالكين، بخلاف المصلح، الذي بإصلاحه تدفع الهلكة، ولذا قال العلامة الشيخ حمد عتيق –رحمه الله-: (فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه، ولا يحمر لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً!!، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله منه!!وقد حدث من لا يتهم عن شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- أنه قال مرة: أرى أناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم يقولون هؤلاء لحى غوانم. فقال السامع: أنا لا أقدر أقول: إنهم لحى فواين، فقال الشيخ: إنهم من العمي البكم. [الدرر السنية: 8/ 78]. وهذا ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى من قبل، حيث قال: ( وقد غرّ إبليس أكثر الحلق بأن حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة، والصيام، والزهد في الدنيا، والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه، أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي، من أكثر من ثلاثين وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله ) [إعلام الموقعين: 2/ 176]. فتدبر – رعاك الله- عظم الأمر، وذُبَّ تعن نفسك أن تكون ممن وصفهم الشيخ آنفاً.
وكم تعظم العواقب كذلك، حين ينطوي بعض طلاب العلم والشباب، عن مسيرة الإصلاح، وترك ميادين المجتمع، لأهل الفساد وأرباب الفن والرياضة، يتنافسون ويتسابقون فيما بينهم إلى تحقيق مآربهم وأهدافهم، ونحن جالسون نندُبُ الحال، ونعيب الزمان، ولكن العيب فينا وذلك بسكوتنا، فإذا ما استفحل الأمر وانتشر الشر؛ فُجئنا بالأحداث والمنكرات كما يفاجأ العامة، فأُنكر المعروف، واستأنس بالمنكر، بسبب تهاوننا في القيام بواجب الإصلاح.

وكم يُرثى لبعض الشباب، سيماهُم الخير والصلاح، ولكنهم غثاءٌ كغثاء السيل، تمر عليه المنكرات تلو المنكرات، وتتاح له فرص الدعوة ووسائل الإصلاح، ولكنه عنها خامد غافل، فلا تتحرك له همّة، ولا غيرة على حرمات الله. ( فعن أبي المنذر إسماعيل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الرحمن العمري يقول: إن من غفلتك، إعراضك عن الله، بأن ترى ما يُسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً ) [صفة الصفوة 2/181]. وكم هي البليّة عندما يكون موقف الواحد منهم موقف المُتفرج السلبي، ويرضى لنفسه بأضعف الإيمان، مع إتاحة الوسائل المتنوعة لإنكار المنكرات والإصلاح. قال ابن القيم: ( وأيُّ دين، وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضيع، ودينه يُترك، وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه، في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليةٍ تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل ) [إعلام الموقعين (2/176)].


وإن كنت يا أخي المبارك، ممن في قلبه حرقةٌ على الواقع، واهتمام بأمر المسلمين>> وأنت المسئول عن أي منكر علمتَ به، سواء بسكوتك عنه، أو عدم إنكارك له، أو حتى التواني في استغلال وسائل الإصلاح لتغيير ذلك المنكر. ولا شك أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفور، قال القرافي- رحمه الله-:
( قال العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الفور إجماعاً، فمن أمكنه أن يأمر بمعروف وجب عليه ) [الفروق للقوافي (4/ 257)]. وأُذكرك بحديث أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً: عن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعكَ إذا رأيت المنكر أن تنكر... [رواه ابن ماجه وانظر صحيح ابن ماجه برقم (3244) والسلسلة الصحيحة برقم (929)]. فشمر عن ساعد الجد وليستعن بالله من الآن، وابدأ بأقرب الناس إليك، واستأنس بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم لك حيث قال: إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم، ينكرون المنكر [أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم 22797، وانظر السلسلة الصحيحة رقم 1700] والله يرعاك ويبارك فيك


سيتبع إن شاء الله بذكر وسائل الإصلاح ...