انظر إلى عوارك و عيوبك و دع عنك عيوب الآخرين
لا يخفى على كل ذي بصيرة و علم أن الله عز و جل خلق العباد و فرق بينهم,لم يجعلهم على صفة واحدة,و ذلك تمام قدرته و علمه و حكمته,فجعل منهم الكافر و المؤمن << هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن>>و جعل منهم البر و الفاجر والبخيل و الكريم و الشجاع و الجبان ,و فرق بينهم في قسمته في الرزق <<والله فضل بعضكم على بعض في الرزق>> فما الناس كلهم أغنياء و ما أكثرهم فقراء بل جعل هذا وذاك امتحانا و ابتلاءا لكل طائفة بالأخرى <<وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون>>.

كما فرق الله عز و جل بين عباده في العلم فجعل منهم العالم و الجاهل و جعل صاحب الفهم القوي و ضعيف الفهم,فيمتحن العالم بتعليم الجاهل و تبيين أحكام الكتاب والجاهل امتحانه سؤال العالم.

فمن أراد انتفاء النقيضين عن هذه الدنيا,كمن أراد أن تنعدم الحاجات عند البشر بأن لا يبقى فقير أو مريض, فقد طلب محالا لأن أسماء الله عز و جل و صفاته كان لابد أن يكون لها أثر في الخليقة و لهذا أشار النبي صلى الله عليه و سلم في قوله<< والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم >> قال الشيخ ابن باز في شرحه لهدا الحديث << معنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى قضى في سابق علمه أنه لا بد من وقوع الذنوب، حتى تظهر آثار مغفرته ورحمته...>>
و أحببت أن أذكر كلاما ماتعا للعلامة ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة حيث يقول <<.. ومنها انه سبحانه له الأسماء الحسنى ولكل اسم من أسمائه اثر من الآثار في الخلق والأمر لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الراحم وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير ونظائر ذلك في جميع الأسماء فلو لم يكن في عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لم يظهر اثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب وما جرى مجراها وظهور اثر هذه الأسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار سائرالأسماء الحسنى ومتعلقاتها فكما أن اسمه الخالق يقتضي مخلوقا والبارئ يقتضي مبرؤا والمصور يقتضي مصورا ولا بد فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له ما يغفره له وكذلك من يتوب عليه وأمورا يتوب عليه من اجلها ومن يحلم عنه ويعفو عنه وما يكون متعلق الحلم والعفو فإن هذه الأمور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها وهذا باب أوسع من أن يدرك واللبيب يكتفي منه باليسير وغليظ الحجاب في واد ونحن في واد>>.
فإذا أنت تدبرت هدا المقام مشهد أثر أسماء الله و صفاته على الخليقة أدركت ما لربك من صفات الكمال و نعوت الجمال و ما له من عظيم الإحسان و كبير النعم عليك, عرفت أنه يجب عليك كل حين أن تبوء بنعمته عليك.
فمامن نعمة رأيتها في نفسك فاعلم أنها من الله << و ما بكم من نعمة فمن الله>> واعلم أن شكرها واجب عليك.
و كفاك من النعم أنك مسلم موحد توحد ربك و لا تشرك به و قدوتك النبي محمد صلى الله عليه و سلم في عبادتك و معاملتك و منهجك و سيرك في السبيل الذي بينه الصحابة الأخيار ومن بعدهم العلماء الأبرار لا تحيد عنه و لا تزيغ.
إذا نظرت إلى هذه النعمة فاعلم أنها محض فضل و إحسان و منة من الرب الكريم و ليس ذلك بفضلك و قدرتك و لا بعلمك و فهمك أيها العاجز الضعيف.
أتظن الهداية حصلت لك استحقاقا منك لهاو ترى في نفسك كأنك أهل لها,و إن نظرت إلى من لم ينعم عليه بالهداية هداية الطاعة و السنة تكبرت و تعاليت و كأنك أعطيت منشورا بالبراءة من الذنب و الثبات على الاستقامة هذا إن كانت استقامة صحيحة حقا,و كان الواجب عليك أن يحصل لديك خوف من مكر الله بك أن ينقلب حالك إلى المعصية و البدعة فتتضرع إلى الله أن يثبتك على الهدى صعودا في طريق الرشاد مستزيدا من الخير و الطاعات شديد البعد عن المعاصي و الآثام, يقول العلامة ابن القيم في كتابه مدارج السالكين <<... يريد أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب وأن أخاك باء به ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثرك بها والإعتداد بها والمنة على الله وخلقه بها فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله وما أقرب هذا المدل من مقت الله فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه وإنك أن تبيت نائما وتصبح نادما خير من أن تبيت قائما وتصبح معجبا فإن المعجب لا يصعد له عمل وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر>>
فياله من كلام نافع لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد من عالم جليل يبين آفة أصيب بها كثير منا من حيث شعر أو لم يشعر آفة التعيير و الشماتة في أهل المعصية و البدعة ,فإن أنت تدبرت هذا الكلام كان حريا بك كل حين أن يكون لسان حالك و مقالك << لا تكلني إلى نفسي طرقة عين>> ثم أنت أيها العبد العاجز أليس لك من الذنوب الكثير الكثير قبل الاستقامة و بعدها أنسيتها أو تغافلت عنها, يقول الله عز وجل مذكرنا بهذا<< كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم>> أنظرت إلى طريق القرآن ليس تعييرا و ذما بل تنبيها للحال قبل الكلام والفعل والنظر إلى منة الله ,قارن بين أحوالك قبل و بعد استقامتك قل جهلك أو كثر و احمد الله و كف عن النظر إلى عيوب الآخرين و البحث عنها, يقول ابن القيم<< ومنها انه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها فإنه في شغل بعيب نفسه فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس هذا من علامة الشقاوة كما أن الأول من أمارات السعادة ومنها انه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطاءين وشهد أن المصيبة واحدة والجميع مشتركون في الحاجة بل في الضرورة إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم كذلك هو أيضا ينبغي أن يستغفر لأخيه المسلم فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات وقد كان بعض السلف يستحب لكل احد أن يداوم على هذا الدعاء كل يوم سبعين مرة فيجعل له منه وردا لا يخل به وسمعت شيخنا يذكره وذكر فيه فضلا عظيما لا أحفظه وربما كان من جملة أوراده التي لا يخل بها وسمعته يقول إن جعله بين السجدتين جائز فإذا شهد العبد أن إخوانه مصابون بمثل ما أصيب به محتاجون إلى ما هو محتاج إليه لم يمتنع من مساعدتهم إلا لفرط جهل بمغفرة الله وفضله وحقيق بهذا أن لا يساعد فإن الجزاء من جنس العمل>>.
فلا تعيرن بعد هذا أحدا من الخلق أبدا سواء بالمعصية أو البدعة مع القيام بأمر الله في ذلك كما في قوله عليه الصلاة و السلام<< إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد و لا يثرب>> أي لا يعير فالقصد إقامة الحد أي حكم الله و ليس التعيير و التثريب فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء فإذا عرفت هذا انظر إلى عوارك و عيوبك و دع عنك عيوب الآخرين تطلبها ذما و تعييرا فتكون حقا من الذين أنعم عليهم و الله المستعان وعليه الثكلان