ذكرت سابقا ان تشوهًا كبيرًا قد اصاب عقولنا وتخريبًا شنيعًا قد ضرب اذهاننا تجاه فهم قضايا السياسة والمجتمع وتعتبر المصنفات والمؤلفات القديمة فى مجال الحكم والسياسة نادرة قياسًا ببقية العلوم الأخرى التى كان المصنفون السابقون يهتمون بالكتابة فيها ويولونها اهتمامًا كبيرًا وذلك بسبب القطيعة التى تمت بين المؤسسة الدينية بدعوى الزهد والورع حتى انتشرت عبارة «من اقترب من ابواب السلاطين هلك»!! وادى بُعد اهل الفقه والدين عن مؤسسة الحكم الى انحرافات كبيرة وظلت العلاقة بين الفقهاء والحكام فى الغالب اما البعد ورعًا او التبعية خوفًا من الفتنة واضطراب الامور!! واعنى بضعف التأليف قلة المصنفات المتخصصة فى هذا المجال وإلا فإن المتصفح لاى كتاب فقه يجد ان ما اصطلح الناس على تسميته دينًا وقصروا مصطلح الدين فيه مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج يحتل خمسة او ستة ابواب فقط من كتب الفقه لتمضى بعد ذلك كتب الفقه فى بيان مسائل الحكم والاقتصاد والاجتماع فتجد باب البيوع والشفعة والاجارة والرهن والوكالة والوقف والهبات والاطعمة والاشربة والقصاص والحدود والقضاء والحوالة والضمان والجهاد والغزوات لتعطيك صورة متكاملة عن التصور الإسلامى للكون والإنسان والحياة وتصوره للكيفية التى يجب ان يعيش بها الإنسان والمؤلفات المعاصرة فى الفقه السياسي بدلاً من ان تنكب على المبعثر فى كتب الفقه عن السياسة والاقتصاد تجمعه وتشرحه وتبين تفاصيله وارتباطه بحياتنا تأثرت فى معظمها بوجهة النظر الغربية فراحت تقارب بين الرؤية الإسلامية والغربية بهدف المقاربة ليس إلا !! خروجًا من حالة الهزيمة النفسية فى ظل حاكمية الحضارة الغربية حتى صارت هذه المصنفات المعاصرة تطرح الاسلام على استحياء وبرؤية تلفيقية وترقيعية لعلها تخرج الشرق والغرب من حالة التصادم الماثلة حاليًا علمًا بأن الخلاف بين الاسلام والغرب ليس خلافًا شكليًا او فرعيًا بل هو خلاف جوهرى واساسى وعميق يتعلق بمجمل المنظومة المعرفية وتفسيرها للوجود الانساني، هنالك فرق بين من يجعل الاله خادمًا للانسان وتابعًا له ولمصالحه التى تحددها اهواء الإنسان وبين من يجعل الانسان تابعًا للاله عابدًا له خاضعًا لاحكامه، هنالك فرق لا تخطئه عين غير معتلة بين من يجعل الانسان ندًا للاله يحاكمه يخطئه ويصوبه فيقول ما قاله الله هنا خطأ وغير مقبول وما قاله هنا مقبول وجيد وبين من يجعل الانسان عبدًا لله يستسلم لحكمه ويخضع له يبتغى رضوانه ويحذر غضبه هذه باختصار هى معركة الغرب والإسلام اليوم وبالامس واليوم وغدًا إن ظل الغرب على ما هو عليه من فكر وضعى يجعل من وجود الاله كعدمه، فهو موجود ولكن بلا صلاحيات حكم ولا تشريع ولا ضبط للحياة، انه وجود صورى !! هذا الوجود الصوري هو الذى يجعل منتهى العلمانية الى الالحاد ،ومنتهى الفكر المادى الغربى الى انكار وجود الاله نفسه.. البى بى سى تجرى استطلاعًا حول مكانة الدين عند البريطانيين وتطرح خمسة اسئلة منها هل تعتقد بان العالم بحاجة الى اله فيجيب 34% من المستهدفين بالاستطلاع ان العالم ليس بحاجة الى اله!! حتى كتب احد الصحفيين الكبار فى التايمز البريطانية «وداعًا ايها الاله فاننا نستطيع العيش سعداء بدونك» ان الذى يزعم انه مؤمن بوجود اله ثم هو يذهب يحدد طبيعة هذا الوجود فيقول وجود يسمح له بالتدخل فى شؤون المسجد ولا يسمح له بالتدخل فى سوق الأسهم انه قبل ان يبحث ما إذا كان فى قلبه إيمان مدعو ان يبحث ما اذا كان فى رأسه عقل!! فالذى تحدد انت طبيعة وجوده هو ابنك وليس الهك!! بل حتى ابنك اخرجته الحضارة الغربية فى ظل نظرية الحقوق والحرية من سلطانك!!.
ان معركتنا مع العلمانية عميقة جدًا ميدانها العقل والفكر والمنطق قبل ان يكون ميدانها النصوص إذ لم اجد حتى الآن علمانيًا يكتب يحاضر يناظر يجعلنى احاول مجرد التفكير بأن له عقلاً رغم انكبابى على كتبهم قراءة وتأملاً من حسين مروة وحتى سيد القمنى ومرورًا بصادق جلال العظم.
إذا أراد العلمانيون إبهارك حدثوك عن حقوق الإنسان فى الفكر الغربي، حدثوك عما يستمتع به الإنسان من حرية هناك، ويصبح بادئ الرأي أمام هذا الحديث مبهورًا مفتوحًا فوه!! ويبقى أصحاب التفكير السطحى يشعرون بحرج عظيم وهم يرون الإسلام يقيد المرأة بزي معين ويقيم على ذنوب حدودًا!! إنها قبل أن تكون أزمة نفسية يشعر بها السطحيون هى أزمة إيمان وأزمة فهم للإسلام وأزمة قدرة على الدفاع عنه وأزمة انتساب إليه أملتها ظروف الميلاد بلا وعي بلا فهم بلا بصيرة !! ذلك لأن قليلاً من التفكير يطرح هذا السؤال المهم: من الذي جعل الحضارة الغربية معيارًا أصلاً حتى تقاس عليها بقية الأفكار والقيم والتصورات من الذى اعطاها هذه الحاكمية على جميع المفاهيم؟! ان نظرة متأملة فاحصة للحضارة الغربية النظرية والحضارة الغربية الممارسة يرى انها من اكبر الكوارث التى حلت بالشرية ولهذا البيان موضع آخر .
اريد هنا ان اطرح قاعدتين ينسفان بنيان العلمانية وهما:
نظرية الحقوق ترتبط بنظرية الملك: من الذى يقسم الحقوق وكيف تثبت هذه الحقوق أصلاً.. عندما أقول حق الانسان فى كذا وكذا ما هو االمنطق الذى اسوق به هذه الحقوق؟! بعيدًا عن السطحية فى فهم هذه العبارات تعالوا نعمق البحث أكثر لنقول ما هو مصدر هذه الحقوق ومن الذى له حق توزيعها وبأي منطق نال هذا الحق؟! للمرأة حقوق على هذا النحو.. وكذا للرجل والطفل حقوق، ولكن هل هذه الحقوق توقيفية ام توفيقية بمعنى هل جلس الناس فى يوم ما من الزمان الغابر فى اجتماع كبير ثم قاموا بتقسيم الحقوق والواجبات بينهم على هذا النحو؟! ان نظرية الملك التى لها علاقة بمفهوم وجود الله هى التى ينطلق منها الاسلام فى فهم مسألة الحقوق فالله الذى خلق الإنسان والكون والحياة هو يملكها ثم هو وحده الذى له الحق فى توزيع ملكه كما يشاء فالله يملك الرجل ويملك المرأة ويملك الكون ويملك الحواس ثم هو الذى ينظم حركتها على النحو الذى يرضيه فيعطى المرأة حقوقًا ويحرمها اخرى كما للرجل حقوقًا ويحرمه اخرى ويعطى الكافر حقوقًا ويحرمه أخرى، فتصرف الله بالتشريع لمخلوقاته بموجب ملكه لها.. والظلم تعريفه فى جميع اللغات التصرف فى ملك الغير بغير اذنه، ولما كان ليس لله شريك فى الملك فكان كل تصرف منه على النحو الذى يرضيه هو تصرف فى ملكه لا يتطرق اليه الظلم ولا يقاس على غيره.
نظرية الحقوق فى الإسلام تقوم على التكامل لا التضاد فالفكر الغربى يطرح حقوق المرأة فى مواجهة الرجل وحقوق الشعب فى مواجهة السلطة وحقوق الفقراء فى مواجهة الأغنياء وحقوق الطفل فى مواجهة والديه.. والغرب حين يطرح الحقوق بهذه الصورة يخلق مجتمعًا غير متجانس بل يخلق من المجتمع الانسانى جزرًا منعزلة وجيوشًا متحاربة بينما الإسلام يطرح الحقوق برؤية تكاملية لا تنازعية فيجعل الحقوق صورة واحدة ومشهدًا متجانسًا فيقول عليه الصلاة والسلام «ان لربك عليك حقًا ولنفسك عليك حقًا ولأهلك عليك حقًا ولزوجك عليك حقًا فاعط كل ذي حق حقه» وهنا تبدو العظمة والشمول فاعط كل ذى حق حقه ابتداء من الرب ثم من بعد ذلك جميع العباد مع جعل الإسلام حق الرب تبارك وتعالى فوق كل حق بل الضابط لكل حق، هذه هي الرؤية الاسلامية بعيدًا عن التلفيق ومحاولات مجارات الخطاب الغربى فى انهزامية مقززة «وقضى ربك الا تبعدوا الا إياه وبالوالدين احسانا» ثم يقول «وان جاهداك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما» ولكن «وصاحبهما فى الدنيا معروفا» ويقول عليه الصلاة والسلام «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» هذا هو الضابط الإسلامى فى نظرية الحقوق إذ هنالك فرق كبير بين نظرية تقوم على مركزية الإله وثانوية الإنسان وأنه تبع لربه وبين نظرية تقوم على مركزية الإنسان وثانوية الإله والدين وجعلت الدين كله تبعًا للإنسان يبدله يغيره يحرفه بما يحقق أهواءه ومصالحه المتوهَّمة فهذا بعض من تناقض العلمانية وتهافتها.