إن المفاضلة بين نظام الانتخاب الفردى ونظام التمثيل النسبى عن طريق الانتخاب بالقائمة تتطلب البحث عن النظام الأكثر ملاءمة لظروف مصر فى هذه اللحظة، ونظراً لأن هناك اتجاهاً متزايداً بين العديد من الكتاب لتفضيل الأخذ بنظام الانتخاب بالقائمة فى الانتخابات القادمة، فقد رأيت أنه قد يكون من المناسب أن أطرح بعض المبررات التى أرى أنها ترجح- فى نظرى- الأخذ بنظام الانتخاب الفردى فى ظروف مصر الآن.
وأبدأ بالقول بأن نظام الانتخاب الفردى يقوم- عادة- على صورة أساسية، وهى انتخاب نائب واحد بين عدد من المرشحين لكل دائرة، فى حين يختار الناخب فى نظام القوائم إحدى القوائم الحزبية، وقد يأخذ نظام الانتخاب بالقائمة أشكالاً متعددة، وكلها تقوم على فكرة اختيار الناخب لقائمة حزبية تتضمن عدداً من المرشحين عن الدائرة الواحدة، فالملاحظة الأولى هى أن صوت الناخب فى نظام القائمة لا يذهب إلى مرشح بذاته وإنما إلى القائمة التى يختارها، والملاحظة الثانية هى أن القائمة الحاصلة على أغلبية الأصوات لا تحصل على جميع المقاعد لهذه الدائرة، وإنما فقط على عدد من المقاعد يتناسب مع نسبة ما تحصل عليه من أصوات.
فإذا حصلت هذه القائمة على ثلثى الأصوات فإن ثلثى المرشحين فى القائمة يدخلون البرلمان بحسب ترتيبهم فيها، ومن هنا، فإن دخول المرشح إلى البرلمان لا يتوقف فقط على مدى تأييد الناخبين له فى الانتخابات، وإنما أيضاً على موقعه فى القائمة.
فإذا كان موقعه ضمن الأسماء الأولى من القائمة فإن حظه فى دخول البرلمان سيكون أكبر من زملائه فى نفس القائمة التى تجىء أسماؤهم فى آخرها، ولذلك فإن نظام القائمة يعطى دوراً حاسماً للحزب فى اختيار ممثلى الشعب فى البرلمان، حيث لا ينجح بعض المرشحين- أحياناً- رغم شعبيتهم الجارفة فى دوائرهم، إذا تصادف وجاء ترتيبهم متأخراً فى القائمة، ويمكن معالجة ذلك بإعطاء الناخب الحق فى تعديل ترتيب أو حتى اختيار مرشحيه، وبذلك يشكل الناخب قائمته الشخصية من بين المرشحين من القوائم المختلفة.
وفى هذه الحالة فإن النظام، وإن كان يأخذ القائمة شكلاً، فإنه يصبح فى جوهره نوعاً من الانتخاب الفردى، حيث يختار الناخب مرشحيه دون التقيد بقائمة معينة، ويكون للدائرة هنا أكثر من نائب، ويأخذ لبنان بهذا الأسلوب الانتخابى، وهو وضع يشبه النظام الحالى فى مصر لترشيح اثنين من كل دائرة من العمال والفلاحين.
وهكذا، يبدو واضحاً الفارق الرئيسى بين الانتخاب الفردى والانتخاب بالقائمة. فالانتخاب الفردى هو تعبير عن علاقة شبه شخصية بين الناخب والمرشح الذى يختاره، فهو يعرفه شخصياً أو يعرف عنه ويختاره على هذا الأساس. أما الانتخاب بالقائمة فهو يقوم على اختيار الناخب لبرنامج الحزب، وبالتالى فهو يختار قائمة هذا الحزب دون أن يكون متأكداً ممن سوف يدخل فعلاً البرلمان، الأمر الذى يتحدد وفقاً لنسبة ما تحصل عليه القائمة من أصوات ومكان اسم المرشح من هذه القائمة.
وهذا الأسلوب للانتخاب بالقائمة يكون، عادة، مقبولاً ومرحباً به فى الدول ذات التراث الحزبى الراسخ، وبحيث تصبح الانتخابات منافسة بين أحزاب عريقة ومعروفة وفقاً لبرامجها الحزبية وليست اختياراً بين الأفراد لما يتمتعون به من ثقة لدى ناخبيهم، والسؤال: هل بلغت مصر مرحلة تسمح لها بأن تكون الانتخابات منافسة على البرامج السياسية للأحزاب؟
للإجابة عن ذلك، نتساءل هل لدينا أحزاب سياسية لها برامج سياسية واضحة ومتميزة؟
باستثناء الإخوان المسلمين، فإن الأحزاب المصرية هشة. حقاً، هناك الوفد وله تاريخ حافل، ولكنه فقد الكثير من شعبيته فى العقود الأخيرة، وبالمثل فقد كان حزب التجمع يستند بدوره إلى أيديولوجية محددة، ولكنه بدوره بدد الكثير من رصيده، وهناك كذلك بقايا من الناصريين وحزب العمل، وقد كانت هذه الأحزاب أكثر انشغالاً بصراعاتها الداخلية وأجنحتها المتصارعة، وقد نشأت بعض الأحزاب الحديثة مثل الغد والجبهة الديمقراطية، ومع ذلك يظل المشهد الحزبى هشاً، بلا تقاليد مستقرة، حيث عرفت معظم هذه الأحزاب انقسامات ونزاعات داخلية لأسباب شخصية أكثر منها مواقف فكرية أو اختلافات على البرامج والتوجهات.
ومن الطبيعى، مع ثورتنا الأخيرة وفتح الباب لتكوين الأحزاب، أن ينشأ العديد من الأحزاب الأخرى الجديدة باسم ثورة ٢٥ يناير وتحت عباءتها، وغالباً ما سوف ترفع شعارات متعلقة بشكل أو آخر بقضايا الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية وحماية البيئة، وما شابهها من المبادئ التى قل أن يختلف حولها الناس، وأغلب الظن أن البرامج ستكون متداخلة ومتشابهة، وإن كانت الوجوه ستكون جديدة وغير معروفة تماماً للغالبية العظمى، وبذلك يصعب القول بأننا بصدد منافسة حقيقية بين الأحزاب، فالأحزاب ليست مجرد برامج تعلن، وإنما هى مواقف وتاريخ ومسؤولية.
ولذلك، فإن الحديث عن منافسة بين برامج حزبية فى مثل هذا الإطار الجديد سيصبح، فى أغلب الأحوال، مجازاً أكثر منه حقيقة، فباستثناء جماعة الإخوان التى تعرف نفسها- أو يعرفها الناس- بشكل واضح محدد، فإن الأحزاب الجديدة سوف تكون بالنسبة لمعظم المواطنين مجرد أسماء وصور دون تاريخ أو مواقف معروفة، ولذلك فإن الأخذ بنظام الانتخاب بالقائمة، فى هذه المرحلة، هو استناد إلى افتراض بأن لدينا أحزاباً لها برامج أو شعبية. فنحن هنا نتحدث عن أمل لم يتحقق بعد. والدول التى تأخذ بنظام القائمة تعتمد، فى الغالب، على تقاليد حزبية طويلة لأحزاب لها جذور تاريخية عميقة، ارتبطت بمواقف سياسية معروفة تجاه العديد من القضايا، ولها رموز سياسية ولها قواعدها الشعبية.
ولا ننسى أن الشعب المصرى لم يعرف- لفترة طويلة- حياة حزبية، وهو فى نسبة كبيرة منه غير متعلم، وفى مثل هذه الأحوال، فإن مطالبة الناخب المصرى باختيار قائمة مكونة من عدد كبير من المرشحين إرهاق له، وهو ربما لا يعرف الكثير عن البرامج المعلنة لكل حزب بل قد يتأثر باسم زعيم الحزب أو باتجاه الحزب العقائدى أو شعاراته، وعلى العكس ففى حالة الانتخاب الفردى فعلى الأقل أن معظم الناخبين يختارون نائباً عنهم فى دائرتهم، وهم غالباً يعرفونه معرفة شخصية، وهو مسؤول شخصياً أمامهم، وبذلك يصبح الاختيار أكثر تعبيراً عن إرادة واضحة، واستناداً إلى معرفة أو ثقة بالمرشح. فعلى حين يقوم نظام القائمة على «افتراض» أن هناك أحزاباً قوية ذات برامج واضحة ومختلفة مع وعى كامل من جانب الناخبين بها، فإن نظام الانتخاب الفردى يستند إلى «حقيقة» أن الناخب يعرف مرشحه وله فرصة لمحاسبته شخصياً. ففى الحالة الأولى نستند إلى «افتراض» وجود حياة حزبية قوية، فى حين أننا نكون فى الحالة الثانية بصدد «حقيقة»، وهى إمكانية معرفة الناخب بمرشحه.
ولعله من المفيد التأكيد هنا على نقطة إيجابية مهمة يتميز بها نظام القائمة، وهى أن الأخذ بهذا النظام يؤدى عادة إلى نوع من الانضباط الحزبى، بحيث يلتزم أعضاء الحزب بشكل عام بمواقف الحزب تجاه معظم القضايا المطروحة، ولكن يقابل هذه الميزة عيب لا يقل خطورة، وهو سيطرة قيادات الحزب على سلوك الأعضاء، وبما يحول- كثيراً- دون الخروج على اتجاهات القيادة الحزبية، وقد أدت هذه الظاهرة فى كثير من الأحوال، إلى نوع من الجمود فى الأحزاب والحيلولة دون بروز قيادات جديدة تتمتع بفكر متجدد ومخالف لمواقف قيادة الحزب، استناداً إلى شعبيتهم فى دوائرهم، ورغم أن تجربتنا مع الحزب الوطنى تمت فى ظل نظام الانتخاب الفردى، فإن سيطرة هذا الحزب على الحياة السياسية، جعلت قوائم ذلك الحزب أشبه بالقوائم فى نظام الانتخاب بالقائمة، ولعلنا نتذكر من هذه التجربة مدى جمود الحزب، حيث كانت إدارة الحزب تسيطر على النواب لأنها- وحدها- تملك حق إعادة ترشيحهم باسم الحزب فى الانتخابات التالية، ومن هنا جاء جمود هذا الحزب واستسلامه التام لإرادة قياداته، كما كانت تظهر فى إيماءات كمال الشاذلى أو زكريا عزمى، وأخيراً أحمد عز للنواب، وقد كان هؤلاء الأعضاء ساداتيين مع السادات، ومباركيين مع مبارك، بل كانوا شاذليين مع الشاذلى وعزيين مع أحمد عز، وهكذا أما فى ظل الانتخاب الفردى فإن النائب يستمد قوته وشرعيته من جماهيريته ومساندة دائرته له، وبذلك يتمتع بدرجة أكبر من الاستقلال فى الرأى.
بقيت نقطة أو نقطتان تستحقان الإشارة، فالانتخاب بالقائمة يعطى فرصة للأقليات الحزبية للتواجد فى البرلمان، وهذه ميزة لا يستهان بها، ولكنها بالمقابل قد تصبح عبئاً على الاستقرار السياسى. فمن المشاهد أن الدول التى تأخذ بالانتخاب الفردى تنتهى- عادة- إلى وجود عدد قليل من الأحزاب الكبيرة، مع وجود حزب أو حزبين مرشحين للأغلبية، وهكذا يساعد نظام الانتخاب الفردى على ظهور أحزاب قوية قادرة على الحصول على الأغلبية، وبما يحقق مزيداً من الاستقرار السياسى. أما الدول التى تأخذ بالانتخاب بالقائمة فإنها تعرف- عادة- تعدداً فى الأحزاب، بحيث يكاد يندر فيها الحصول على الأغلبية، وبالتالى يصعب تشكيل حكومة فيها إلا من خلال التآلف مع الأحزاب الأخرى. فنظام التمثيل النسبى يوفر فرصة للأقليات الحزبية لدخول البرلمان، وكثيراً ما تكون هذه الأحزاب هى الأكثر تطرفاً، ويكفى أن تقارن الحكومات فى الدول التى تأخذ بنظام الانتخاب الفردى بتلك التى تأخذ بنظام القائمة. فإنجلترا- وهى تأخذ بالنظام الفردى- تعرف استقراراً سياسياً فى ظل نظام للحزبين بشكل عام، وكذا الحال فى الولايات المتحدة، وقارن هذا بالدول التى تأخذ بنظام القائمة حيث تكثر الأحزاب السياسية، وبالتالى يصعب تشكيل حكومة أغلبية، والاعتماد بشكل كبير على حكومة الائتلاف بين عدة أحزاب للأقلية، كما فى إسرائيل أو فى بلجيكا.
ولعلى أضيف هنا إلى أن تجربة مصر التاريخية فى الانتخابات قد استندت بشكل عام لنظام الانتخاب الفردى، وبالتالى فإن مشاكله معروفة لنا ويمكن مواجهتها، أما الانتخابات بالقائمة فهى نظام جديد على كل من الناخبين والمرشحين. كذلك فإنه يجب ألا ننسى أن المستقلين يجدون صعوبة فى المشاركة السياسية الفعالة فى ظل نظام القائمة، ولا يخفى أنه فى دولة مثل مصر لم تعرف حياة حزبية حقيقية لما يزيد على نصف القرن، فإنه ليس من المصلحة استبعاد الرموز المستقلة من الاشتراك فى الانتخابات، كما أنه من الصعب توقع قيام أحزاب سياسية قوية خلال فترة قصيرة، بحيث تكون قادرة على استمالتهم إلى عضويتها، وهذا رغم أن لهؤلاء دوراً مطلوباً.
وأخيراً فلابد من الاعتراف بأن الانتخابات بالقائمة تقلل من خطورة تأثير المال على الانتخابات بالنظر إلى اتساع الدوائر الانتخابية، وهى ميزة كبيرة فى ذاتها، ولا يمكن التهوين من شأنها، ومع ذلك فهناك دائماً أساليب لتقليل آثار المال على الانتخابات حتى فى ظل الانتخاب الفردى.