جزء من مقدمة بحث لأخينا الفاضل محمد جلمد ....أسأل الله أن يجعله فى ميزان حسناته ويوفقه لنفع المسلمين.....

الحمد لله رب العالمين ، الرحمان الرحيم ، مالك يوم الدين ، إياك أعبد ، وإياك أستعين ،اللهم اجعلني من الموحدين الخالصين ، الذين ليس في قلوبهم دخن ولا شبهة ،واجعلني من المتبعين لنبيك الحبيب صلي الله عليه وسلم إتباعاً صادقاً بالقول والعمل .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما أحدثته شياطين الإنس مما تعجز عنه شياطين الجن في دينك الذي أنزلته علي قلب رسولك الأمين .
اللهم إياك أعبد ، فأعني علي عبادتك وحدك بلا شريك لك ، عبادة خالصة ، لا رياء فيها ولا شرك .
وإياك أستعين ، فأعني علي اتباع هدي رسولك الكريم ، ونبذ ما عداه من المذاهب ، والفرق ، والجماعات ، والآراء ، والأهواء .
*** اللهم لك الحمد علي تمام الدين وعلي كماله ، قال سبحانه وتعالي : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ".
وعن طارق بن شهاب قال : قالت اليهود لعمر : آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية ؟ ، قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه ، على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
فدين الإسلام قد كمل وشهد رب الناس علي ذلك ، وأنزله كلاماً متلواً في كتابه إلي أن تقوم الساعة .
فالحمد لله الذي لم يجعلنا في حيرة من أمرنا ، بل أتم لنا شرعه ، أمره ونهيه.
لم يدعنا لم يراه هذا وما يحبه ذاك ،إنما أكمل الدين وأتمه ، حتي حسدنا علي ذلك اليهود ، بل وأعلمونا أنهم يحسدوننا علي ذلك !!
هم قتلة الأنبياء والرسل ،
هم عبدة العجل ،
هم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله ،
هم الذين قالوا : سمعنا وعصينا، بلا تردد ولا وجل ،
هم الذين قالوا لنبيهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ،
هم الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء !!

ومع هذا السفه كله عرفوا قدر ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام ، عرفوا هذا أكثر من كثير ممن يُحسب علي أمة محمد صلي الله عليه وسلم !!!
*** ولك الحمد علي بيان الدين ،
قال تعالي في كتابه الحكيم : " يبين الله لكم أن تضلوا " ، فهو سبحانه وتعالي يريد أن يبين لنا أمور ديننا كي لا نضل كما ضل من قبلنا ، كي لا يكون لنا حجة عنده سبحانه وتعالي بعد هذا البيان ،
وقال سبحانه وتعالي : " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ".
فهذه هي إرادة التبيين من الله سبحانه ، أراد أن يبين لنا ما أراده منا ، أراد أن يبين لنا ما حرمه علينا ، وأراد أن يبين لنا ما أمرنا به من عبادات ومعاملات وآداب.
فرب هذا العالم وموجده من العدم ، الذي خلق السماوات والأرض ، والإنس والجن ، والهواء والماء ، الذي يخرج الزرع من الحب ، وينزل من السماء ماء ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج لبناً خالصاً من بين فرث ودم ، الذي يسير السحاب ، الذي يعلم ما في الأرحام ، الذي خلق الموت والحياة ، الذي يبعث الخلق بعد موتهم وتحللهم وتعفنهم ، الذي بيده مقاليد كل شيء ، سبحانه وتعالي يخبر عن نفسه أنه يريد أن يبين لنا !!
فهل بعد بيانه بيان ؟؟
فكل ما أراد سبحانه أن يأمر به أمر به ، وكل ما أراد سبحانه أن ينهي عنه نهي عنه ، وكل ما لم يرد فيه أمراً ولا نهياً سكت عنه ،
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
فهذا هو دين الإسلام :
أوامر من الله ،
ونواهي من الله ،
ومسكوت عنه أمرنا ألا نسأل عنه .
ولاحظ أنه صلي الله عليه وسلم أمرنا ألا نسأل عن ما لم يأمر فيه رب العباد أو ينهي أمراً مباشراً واضحاً ، وهذا بينٌ من قوله عليه الصلاة والسلام : (دعوني ما تركتكم ) .
ولا ينتهي العجب ممن يبحث بعد هذا كله عن بيان الدين في هذا المذهب أو ذاك .
أو في رأي هذا ، أو ما أحبه ذاك !!
*** ولك الحمد علي محمد رسولك الأمين صلي الله عليه وسلم ، الذي أنعمت به علينا إتماماً لنعمة البيان ،
قال سبحانه وتعالي : " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " ،
وقال سبحانه وتعالي : " وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " ،
فالنبي صلي الله عليه وسلم إنما بعثه الله سبحانه ليبين للناس ما أنزله الله في كتابه ، بياناً عملياً ليفهم كل إنسان ، الكبير والصغير ، الرجل والمرأة ، الحر والعبد ، الأمي والقارئ.
فإذا قال الله تعالي : " وامسحوا برؤسكم " ، سيفهم منها المسلمون أن المطلوب منهم ضمن أعمال الوضوء أن يمسحوا رؤسهم ضمن أعمال الوضوء الشرعي الذي أمرهم به الله سبحانه وتعالي .
ولكن الفهم يختلف من إنسان لآخر ، ويتدخل الفهم اللغوي ، والنفس ، والهوى ، والشيطان ،
وتفترق الأمة المسلمة إلي فرق كثيرة ، كل فرقة منهم تمسح الرأس بطريقة تختلف عن الفرقة الأخرى ، ويتركون ما نزل به الروح الأمين علي قلب محمدٍ صلي الله عليه وسلم !!
مع أن الوضوء واحد ، والآية التي أمرت بالمسح واحدة ، والنبي الذي نزلت عليه هذه الآية وأمره الله سبحانه وتعالي ببيانها إلي الناس واحد !!
أنظر لتحب محمداً صلي الله عليه وسلم :
قالت ناس : الباء في اللغة حرف جر لأربعة عشر معني ، منها الإلصاق والاستعانة والتبعيض وغيرها ،
( كون الباء للتبعيض هذا فيه خلاف بين أهل اللغة ) ،
فقال ناس : هي في هذه الآية للإلصاق أو الاستعانة ، ثم اختلفوا ، فقالت طائفة بجزيء في المسح شعرة واحدة ، فرد عليه آخر قائلاً : لا بل ثلاث شعرات !!
أما من قالوا بالتبعيض فاختلفوا أيضاً كما اختلف الذين أوتوا الكتاب من قبلهم !!
فقال ناس منهم يمسح ثلث الرأس ، وقال ناس بل يمسح ربع الرأس !! ،
وهذا الخلاف المقيت الذي فرق الأمة مبني علي الخلاف في قدر كف الإنسان هل هو ثلث الرأس أو ربعه ؟؟!!
وهذا الذي بُنِيَ عليه الخلاف لا ناقة لنا فيه ولا جمل ، وإنما نحن ومن أسلم وجهه لله وهو محسن تبع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، لا أحد غيره .
وكأن الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالي لمهمة بيان الرسالة لم يكن عنده علم بهذا كله !!
فأصبح المسح فيه حتى الآن أربع أقوال ، في نفس الوضوء ، في نفس الدين ، ولاحظ أن هذه الأقوال الأربعة لم تتطرق لعدد مرات المسح ، ولا كيفيته !!
فإلى كم قول يمكن أن نصل ؟؟
فكيف ستمسح رأسك إذا قمت تتوضأ للصلاة ؟؟
فالمسح حتي الآن : شعرة وثلاث شعرات وربع الرأس وثلث الرأس .
فهل هذا هو البيان الذي ذكر الله سبحانه أنه أراده وأرسل رسوله من أجله ؟؟
اترك الآن هذه السبل واستمع إلي النور المبين ،
إلي البيان الذي أراده الله سبحانه وتعالي ،
انظر إلي فهم محمد صلي الله عليه وسلم لكلام ربه والذي هو عند كل مؤمن مُقدم علي أي قول أو رأي ،
جاء رجل فقال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ ، فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه .
هنا يأتي البيان ، هنا يأتي النور المبين الذي يبدد ظلمات الاختلاف والفرقة ، هنا يأتي محمد صلي الله عليه وسلم ليفرق بين صراط الله المستقيم وبين السبل ويبين لنا طريقة مسح الرأس التي أرادها رب العالمين .
كيف فعل رسول رب العباد الذي بعثه الله سبحانه مبيناً لمراده سبحانه ؟؟
مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه .
هذا هو المسح الذي أراده الله سبحانه في الوضوء قبل القيام للصلاة ، وما عداه لهو ولعب ، ولو كان مسح الشعرة أو الثلاث أو ربع الرأس أو ثلثها من الدين في شيء لبينه محمد صلي الله عليه وسلم .
والدليل أن كل هذه الأقوال باطلة أن الله سبحانه وتعالي قال : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " ، ولا اختلاف أكبر من هذا ، فدل هذا علي أنه ليس من عند الله سبحانه وتعالي .
وانظر يرحمك الله إلى تعارض تلك الأقوال وتعقيدها ، وسهولة نص حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه : مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه .
بيسر شديد بين لنا طريقة المسح وكيفيته وعدده !!
لا احتمالات ،
لا ظنون ،
لا تعقيد ،
لا خلاف ،
لا فرقة .
ولاحظ أننا لم نتطرق لما قيل في :
1 ـ عدد مرات المسح ؟
2 ـ هل المسح من الأمام للخلف أو العكس ؟
ولو جمعنا المسألة كلها بما فيها من اختلافات لوصلت إلي عشرات الأقوال !!
ولاحظ حكمة هذا السائل رحمه الله ورجاحة عقله ، وكيف وجه سؤاله لعبد الله بن زيد رضي الله عنه ، لم يقل : هل تستطيع أن تريني كيف تتوضأ ؟ ، وإنما قال له : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟
فهذا الرجل اللبيب الراجح العقل يسأل عن الذي أرسله رب الناس إلي الناس ، محمد صلي الله عليه وسلم ، لم يسأل عن فلان أو علان .
والكارثة الحقيقية هي أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ، وأتباع السبل ، وسدنة معابد المذاهب ، والذين يفضلون أن يتبعوا فلاناً ، أي فلان ، بعد أن تُعرض عليهم سنة محمد صلي الله عليه وسلم ، الكارثة أن هؤلاء هم أول الهالكين ، فيقولون : وماذا سيضر الخلاف في أمر يسير من أمور الوضوء ؟؟
وسيقولون: دعونا من هذه الخلافات ، وليمسح كل إنسان كما يري أنه الصواب ، ودعونا لا نفرق كلمتنا .
وسيقولون : المسلمون يذبحون في كل مكان وأنتم تريدوننا أن نتكلم في الوضوء ، ومسح الرأس ، ومسح الأذن ؟؟!!
وهؤلاء من أجهل الخلق ، وأبعدهم عن الحق .
فالنبي صلي الله عليه وسلم يقول كما في حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
ورد يعني : مردود علي صاحبه غير مقبول .
وقال صلي الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح : قال : دخل رجل المسجد فصلى والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ، فرد عليه السلام وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا فعلمني ، فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها .
ولاحظ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( فإنك لم تصل ) ، ولم يقل : أعد الصلاة مثلاً لأنه لم يعتد بها كصلاة أصلاً ، ولم يقل : صلاتك هذه المرة ناقصة ! !
ولم كما يقول أهل العلم باللغة أداة نفي جازمة ، تفرغ الفعل من مضمونه تماماً ، أي هذا الذي فعلته لا يعتد به كصلاة في الإسلام .
فتأمل حال أمة عِظمُها لا يصلي أصلاً ، والفئة التي تصلي ، منقسمة إلي مئات الفرق ، وكل هؤلاء إلا طائفة واحدة ، كلهم وضوءهم مردود عليهم ، ولم يصلوا !!!!!!
فكيف يكون حال أمة كهذه ؟؟
أترك الإجابة لك .
وكل هذا من جراء الإبتعاد عن هدي وحديث محمد صلي الله عليه وسلم .
*** هل فهمت الآن معني قوله تعالي : " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لداً " ؟؟
*** هل فهمت معني قوله سبحانه تعالي : " ولقد يسرنا القراّن للذكر فهل من مدكر " ؟؟
*** هل فهمت الآن معني قوله تعالي : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ؟؟
فهذا هو البيان الذي جاء به رسول رب العالمين ، وهذا هو التيسير الذي جاء به ، في دين شهد الله سبحانه بتمامه وكماله ورضيه لعباده .
فكل مسألة من دين الله ، الذي هو دين الإسلام ، القول الفصل فيها لله ولرسوله ، لا فلان ، ولا رأي ، ولا مذهب ، ولا مرشد ، ولا أمير ، ولا جماعة .
وكل علوم الشرع المطهر ومسائله إنما تستمد أدلتها من الكتاب والسنة لا غير ، وهذا بديهي ، فكل علم مركب من جزيئات ، وكل جزئية يفترض أن لها دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلي الله عليه وسلم .
أما ما قيل من غير دليل ، أو بأدلة غير ثابتة فلا قيمة له ، ليس هناك فرق أن يكون قاله هذا أو ذاك ، فكل قـول بغـير دليل فهو كالريح ، مهما كان قائله .
وكل من وافق قوله في مسح الرأس فعله صلي الله عليه وسلم فقد أصاب ، وإن كان عبداً أسوداً لا بباليه الناس باله ، ومن خالفه فقوله ساقط مردود مأجوراً كان أو مأزوراً .
ومحمد صلي الله عليه وسلم لا يأمر إلا بوحي ، ولا ينهي إلا بوحي ، ولا يسكت عن شـيء إلا بوحي .
وهو صلي الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى في الرضا ولا في الغضب .
( ووالله لقد قال بعض الذين ماتت قلوبهم في صدورهم وصورهم حية ، وللأسف نعرفهم معرفة شخصية ، وهم هنا في هذه البلدة التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً ، قالوا : كيف تأخذ منه صلي الله عليه وسلم مباشرة ، من غير أن تعود لأقوال أهل العلم فيما قاله ، وهو يتكلم في الرضا والغضب وينسي ويتذكر ؟؟ ) !!!
ولا تعليق علي هذا الكلام ، نسأل الله السلامة .
وهذا الذي يتكلمون عنه بأبي هو وأمي والناس أجمعين عليه الصلاة والسلام ، أمرنا الله سبحانه وتعالي بطاعته واقتفاء أثره بلا علة ولا سبب :فقال سبحانه : " وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا "
وقال سبحانه : " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "
وقال سبحانه : " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا " ،
وقال الله عز وجل : " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " ،
وقال سبحانه : " وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى " ،
فإذا كنا قد أمرنا بطاعة هذا الرسول الأمين صلي الله عليه وسلم ، وآمنا بأنه لا يقول إلا بوحي من الله ، فإن من لوازم هذا الإيمان أن كل من قال برأيه أو اجتهاده أو استحسانه أو قياسه بخلاف ما أوحى الله به إلى رسوله فقوله غير مقبول ، وحكمه مردود ، ولو كان إماماً للدنيا كلها .
إذ الوحيد الذي أمرنا بطاعته واتباعه بلا سؤال ، هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي صلي الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه وتعالي مبيناً لمجمل القرآن ومفسراً له .
أما غيره فلا طاعة له إلا أن يكون مؤيداً بالكتاب أو صحيح السنة ، وعندها لا تكون الطاعة له ، بل للذكر الذي أتي به من قول الله عز وجل أو قول رسوله صلي الله عليه وسلم .
قال تعالى : " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " ،
وقال تعالي : " وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " .
هذا هو دوره ، هذه هي مهمته ، هذه هي رسالته صلي الله عليه وسلم .
وبالمثل في الحج والعمرة والصلاة و الزكاة والصيام والزواج والطلاق والمواريث والبيوع والمعاملات والآداب والحروب والسلم والصلح وكل الشرع المطهر .
من سيبين ؟ من سيفصل ؟
إنه هو ، لا أحد غيره ،
*** الذي جاء مأموراً بالبلاغ
فخاطبه ربه سبحانه قائلاً : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " .
*** وجاء مأموراً بالبيان ،
فخاطبه ربه سبحانه قائلاً : " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " .
هذا النبي صلي الله عليه وسلم لم نره ولم نسمعه ، لكن الملك سبحانه تعهد بحفظ دينه فقال سبحانه : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " .
فسخر سبحانه وتعالى من نقل لنا ميراث محمد صلي الله عليه وسلم كاملاً مكتملاً ، غضاً طرياً ، وعلى رأس فقهاء النقلة أصحابه الكرام رضي الله عنهم .
نقلوا هذا الميراث بكل دقة ، نقلوا الأمر والنهي والضحك والتبسم والغضب والحزن نقلوا كل شيء ، كيف لا ؟!! ، وقد تعهد سبحانه بحفظ دينه الذي ارتضاه لعباده ؟!
وهكذا سارت سفينة الحديث الشريف من الصحابة إلى التابعين إلى تابعيهم ، حتى عصر التدوين الذي جمعت فيه السنة في كتب ودواوين ولله الحمد والمنة .
ولما كان الناس يختلفون في مقدار فهمهم ، وحفظهم ، وأدائهم لما فهموه وحفظوه ، منهم من يحفظ الصفحات الطوال عن ظهر قلب ، حتى إذا أملاها لم ينقص منها حرفاً ولم يزد ، ومنهم من يحفظ الثلاث أسطر بالكاد ، وإذا أملاها من حفظه أخطأ في نصفها ، وهذا لا ينكره إلا مكابر عنيد ، هذا هو الأمر الأول .
والأمر الثاني هو ظهور الفتن والاتجاهات والجماعات ، واختلاط الأمور على كثير من النـاس .
وانتصار هذه الطوائف بأحاديث تؤيد ما هم عليه ، بل إن بعضهم وضع الحديث عمداً لنصرة العقيدة أو الجماعة أو المذهب !!!
فكذب بعضهم علي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : يخرج في أمتي محمد بن إدريس أضر عليهم من إبليس !! ،
لينفر الناس عن المذهب الشافعي ، ومحمد بن إدريس هو الشافعي .
ولم يكتف بهذا بل أضاف : ويخرج في أمتي أبو حنيفة ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي !!!
فهذا رجل لم يبال بمقعد في النار لنصرة مذهبه ، وجذب الناس إليه ، وأغلب الظن أنه كان يفعل ذلك محتسباً للأجر والمثوبة من الله ، شأن كل الجهال بعلم الحديث الشريف ، يفسدون من حيث أرادوا الإصلاح !!
وهذا المثال من الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم نقطة في بحر من الكذب عليه ، فمنهم من كذب عليه صلي الله عليه وسلم مرغباً في أكل الملح ولا ريب أنه كان من تجاره !! ،
فقال : يا عليّ عليك بالملح فإنه شفاء من سبعين داء !!
أما أحد هواة العدس فيقول : عليكم بالعدس ، فإنه مبارك ، فإنه يرق له القلب ، ويكثر الدمع !!
أما من يفضلون الأرز فكذبوا عليه صلي الله عليه وسلم قائلين : الأرز مني ، وأنا من الأرز !!
أما تجار الغنم والشياه فقالوا : من كان في بيته شـاه كان في بيته بركـة !!
ومثله كثير في الكتب التي اهتمت بجمع الأحاديث المكذوبات علي سيد الأنام صلي الله عليه وسلم ، والذي هو منها بريء .
وهذه الأحداث إنما بدأت تظهر منذ أن وقعت الفتنة الشنعاء بمقتل صهر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخليفة المسلمين عثمان بن عفـان رضي الله عنه وأرضاه .
وبعدها ركب الناس الصعب والذلول ، واستفزهم الشيطان ، وزين لهم فإنا لله وإنا إليه راجعون .
فالأمران معاً ، أي تفاوت ملكة الحفظ بين الرواة وبعضهم ، وكذا تعمد الكذب عليه صلي الله عليه وسلم ، الأمران كانا خطراً داهماً على الشريعة المطهرة ، فأخرج سبحانه وتعالى جهابذة تخصصوا في هذا الفن ، وهبوا أعمارهم لسنة نبيهم صلي الله عليه وسلم .
هؤلاء الرجال الأفذاذ تركوا الفراش والزوجة والمال والأهل والولد وجابوا البلاد والصحاري والقرى بحثاً عن حديثه صلي الله عليه وسلم .
ما ألفاظه ؟
من الذي رواه ؟
هل شاركه فيه أحد ؟
هل هو متهم ؟
هل هو حافظ ؟
هل . . . ؟ هل . . . ؟ . . .
من هؤلاء الأفذاذ رحمهم الله : عمرو بن دينار ، محمد بن سيرين ، قتادة بن دعامة ، أبو إسحاق السبيعي ، سفيان بن عيينة ، الزهري ، سليمان بن مهران الأعمش ، شعبة بن الحجاج ، سفيان الثوري ، مالك بن أنس ، يحيي بن سعيد القطان ، عبد الله ابن المبارك ، أحمد بن حنبل ، يحيي بن معين ، علي بن المديني ، محمد بن إسماعيل البخاري ، مسلم بن الحجاج ، أبو عبد الرحمان النسائي ، محمد بن عيسي الترمذي ، أبو داود سليمان بن داود ، ومحمد بن إدريس الحنظلي ، وعبيد الله بن عبد الكريم ، وأبو الحسن الدار قطني ، أسكنهم الله الجنات ، آمين.
فهم رجال شرح الله صدورهم للتقوى ، وجعل في قلوبهم الحمية والغيرة علي سنة نبيه الكريم صلي الله عليه وسلم .
فأخذوا يفتشون عن الرجال والأسانيد ، ويميزون الأصيل من الدخيل ، والمستقيم من الإفك المبين .
نذروا أنفسهم لله سبحانه ، فرحمهم الله جميعاً .
قنعوا بمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ومبلغاً ومبينا ً، فاستغنوا به عن غيره .
إذا مسح رأسه حال وضوئه لم يقولوا : ربما كان كذا ، أو من المحتمل كذا ، بل سمعوا وأطاعوا ، فمسحوا رؤسهم كما مسح رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولسان حالهم يقول : " سمعنا وأطعنا " .
لم يسألوا : هذا المسح ركن أم فرض ؟
هل هو واجب أم سنة مؤكدة أم هو مستحب ؟
لم يسألوا : هذا حديث متواتر أم آحاد ، ظني أم يقيني ؟!!!
فقط مسحوا رؤسهم .
كان مقصدهم الأول والأخير رحمهم الله تعالي هو الإتباع للرجل الذي آمنوا أنه خاتم النبيين ، وأن فعله وفهمه لا يقارن بغيره من بني آدم ، ولو جمعنا من بأقطارها .
لهم القدوة والأسوة الحسنة في الأصحاب الكرام ، كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنه : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب ، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، فقال : ( لبست خاتماً من ذهب فطرحه ) ، فطرح الناس خواتيمهم .
في المرة الأولى لم يسألوه هل هو فرض ؟ . .
أم واجب ؟ . . .
أم مستحب ؟ ؟
لم يسألوا . . . بل فعلوا ما فعله صلي الله عليه وسلم .
وكذا في المرة الثانية لم يسألوه هل هو حرام ؟
أم مكروه ؟
أم من يفعله يخلد في النار ؟
لم يسألوا . . . ، فقط فعلوا ما فعل ، وتركوا ما ترك صلي الله عليه وسلم .
هكذا يكون الإتباع ، أما ما نحن فيه الآن فهو انتقاء وليس اتباعاً .
فعلم الحديث علم شريف عظيم القدر ،
وهو مطلب كل حبر ،
ولا يحرمه ويستهين به إلا كل غمر ،
ولا يحسنه بعد جيل الرواد إلا الأفراد من الأمة ،
وهذا العلم الشريف هو عمدة العلوم كلها ، من لم يتقنه بعلومه العديدة صار كالأعمى يعمل دليلاً أو كالأعرج يحترف سباق مائة متر عدواً !!
فالمفسر يقول : قال ابن عباس كذا وكذا...
وبينه وبين ابن عباس سند متصل خال من الشذوذ والعلة ، هذا السند هو الذي يجزم هل قال ابن عباس هذا أم لا ؟
والفقيه يقول هذا حرام والدليل قوله صلي الله عليه وسلم كذا وكذا ،
وبينه وبين النبي عليه السلام سند هو الذي يثبت أو ينفي نسبة هذا القول لرسول الله صلي الله عليه وسلم .
والأصولي كما يسمونه يقول في تصانيفه : والعمدة في هذا الباب علي حديث كذا وكذا ،
وبينه وبين صاحب الحديث سند إن صح ثبت الحديث والباب الذي بناه علي الحديث وإلا فلا .
وعالم القراءات يقول : وقرأ ابن مسعود هكذا ، أما أُبيّ بن كعب فقرأ هكذا ،
وبينهما وبينه سند ، هو الذي يفصل ويحسم أي منهما يثبت ويصير ديناً للمسلمين ( لاحظ أن بعض الأثبات في القراءات ورواياتها ضعفاء في رواية الحديث ، لأنهم تفرغوا لعلم القراءات ، ولم تكن عنايتهم بحفظ الحديث الشريف كعنايتهم بحفظ الأحرف ، فالاحتجاج بهم في ما حفظوه وأتقنوه وتفرغوا له أمر بديهي مسلم ، ومنهم عاصم بن أبي النجود الكوفي فتنبه ) .
وهكذا كل علم من علوم دين الإسلام الذي أنزله الله وحفظه ، وتعبدنا به إما آية من كتاب الله أو حديث صحيح ثابت عن النبي صلي الله عليه وسلم لا مطعن فيه ولا علة ،
فكل العلوم تفتقر إلي علم الحديث الشريف ، علم النبوة ، علم محمد عليه السلام .
فعلم هذه الأمة الذي اختصها به الله سبحانه هو علم السند ، وهو العلم الذي حفظ الله به علينا ديننا ،
يقول عبد الله بن المبارك : إن هذا العلم دين ، نعم والله وصدق وهو الثقة الثبت المتقن رحمه الله .
هذا العلم دين ،
نار وجنة ،
كفر وإسلام ،
إيمان ونفاق ،
حلال وحرام ،
وكل هذا إنما مداره علي علم الأسانيد ،
فتأمل لتعلم خطورة هذا العلم الشريف الذي نحاه غالب الناس جانباً ليتفرغوا لدراسة وحفظ كلام فلان وعلان ممن لم ينزل عليه جبريل عليه السلام ولا اصطفاه رب الناس ، أو دراسة وحفظ المتون الفقهية العارية من الأدلة ! !