الحوار هو الطريق لهداية الإنسان إذ لا إكراه فى الدينِ، والدينُ مبنيٌّ على القناعة، إذ التديُّن والتسليم والخضوع والعبودية القائمة على كمال الحب مع كمال التذلُّل لا يمكن تصورها فى ظل الإكراه، لذلك كانت دعوة الناس بالحسنى هى الأصل، والإسلام حين شرع الجهاد ليس لإدخال الناس فى الدين ولكن لتحطيم كل الحواجز المادية التى تحول بينهم وبين دخول الدين، فالدولة الإسلامية غير مطالبة بحمل الناس على الهداية، ولكنها مطالبة بتقديم النموذج الذى يدعو الناس للهداية وتهيئة الظروف للاهتداء للدين، وما أُصيب المسلمون بتشوُّهٍ فكري كما أُصيبوا فى مسألة التعامل مع الآخر، إذ لم تخلُ الدراسات المحدثة فى هذا الباب من التأثر بالحاكمية الغربية ومفهوم حقوق الإنسان فى سياق الحضارة الغربية، ووجدت الأمة نفسها تستحي.. «تتدسدس» وهى تطرح الأحاديث والآيات التى تناولت الآخر بطريقة صارمة عقائدياً مع مطالبة تلك النصوص بالتعامل معه بالحسنى ولكن فى ظل ضوابط وشروط صارمة ودقيقة!، ذلك لأن الله تعالى أراد أن يقيم واقعاً شرعياً وسياسياً واجتماعياً يدفع الآخر دفعاً للهداية لكنه لا يكرهه !! والإسلام الذى يجعل من وظيفة الجماعة المسلمة بعد التمكين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس فى المنكرات منكرٌ أقبحُ ولا أكبر من ادعاء أن لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة ((وقالوا اتخذ الرحمن ولداً «88» لقد جئتم شيئا إدّا«89» تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا«09» أن دعوا للرحمن ولدا)) «91» فأمرٌ أغضب السموات والأرض والجبال على هذا النحو لا شك أنه يغضب المسلم، ولذلك نحن بحاجة الى تصحيح المفاهيم المتعلقة بالحوار مع الآخر ويحسن بى أن أذكِّر بجملة أمور:
/1 الاختلاف بين الأديان اختلاف تضاد لا تنوع: فالخلاف بين الفكرة التى تقول بالوحدانية والفكرة التى تقول بالتثليث هو اختلاف تضاد لا تنوع، والخلاف يبين الفكرة التى تقول بحاكمية الله والفكرة التى تقول بحاكمية البشر هو خلاف تضاد لا خلاف تنوع والخلاف بين الاسلام والعلمانية خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فأية محاولة لتبسيط الخلاف هذا تفريط لا يؤدي إلى إدارة حوار على أسس سليمة، ولا يمكن أن يكون تعبيراً عن منهج يحب الخير للآخر فى الدنيا والآخرة، فالذين يغضبون من تمييع مثل هذه الأمور هم أحرص على خير الآخر من الذين يحاولون خداعه بأن جبهة المؤمنين تجمعنا، أو أننا جميعاً أهل كتاب، أو أننا جميعاً أصحاب ديانات سماوية، فإن الآخر الذى يستمع لمثل هذه الهرطقة هو لا يتحاور مع الإسلام وإنما يحاور مسلمين لم يفهموا الإسلام بعد!، ولم يكونوا يعبِّرون عن نصوصه ولا روحه، إذ لن تجد في نصوص الإسلام ولو كانت نصوصاً موضوعة أو ضعيفة نصاً يساوي بين التوحيد والتثليث أو يبسط من الخلاف بينهما!
/2 بين الحق والباطل تدافع لا تعايش: ذلك لأن التضاد بين الحق والباطل، النور والظلام، الهدى والضلال، الايمان والكفر، أشد وأوضح وأبين من التضاد بين الطبيعيات المتناقضة مثل الليل والنهار، والشمس والقمر، والحار والبارد، «لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون». فالقرآن يقول لا ينبغى له أن يدركه، أن يتساوى معه، أن يجتمعا فى آن واحد فيكون الوقت ليلاً نهاراً فى نفس الوقت، وليس بالضرورة ان يكون هذا التدافع تدافعاً عسكرياً، ولم يحدث عبر التاريخ الإنسانى الطويل وليس التاريخ الإسلامي فقط أن عاش حقٌّ وباطلٌ فى بقعةٍ من الأرض في برهةٍ من الزمن على قدم المساواة بينهما!، فالأفكار المثالية ليست تلك التى تدعو إلى الصراحة مع الآخر وعدم تجاوز كثيرٍ من النصوص الشرعية البينة فى الأمر، وإنما المثالية هى تلك الدعوات غير الواقعية التى تدعو للتعايش على قدم المساواة بين الحق والباطل، ومازلت منذ زمن بعيد أُقدمُ هذا السؤال الذي حاروا فى إجابته وهو أن يذكروا مثالاً واحداً للحق والباطل عاشا معاً على قدم المساواة فى تاريخنا الإنسانى كله، ذلك لأن الحق يوم يعترف بمساواة الباطل به لم يعد حقاً وإنما صار فكراً مشوهاً وتصوراً شرماً، إن التاريخ يحدثنا عن الأيام الدول التى يعيش فيها الباطل تارةً تحت سلطة الحق ويتحرك فى المساحة التى يسمح له الحق بالتحرك فيها، وتارةً يعيش الحق مستضعفاً تحت سلطة الباطل يقاوم ويقاوم حتى يُكتب له التمكين مرة أخرى، هذه هي قصة الحياة كلها منذ خلق اللهُ الإنسان وليس للحياة قصة غيرها!!، والتدافع يأخذ شكلاً سلمياً حيناً ويأخذ شكلاً عسكرياً أحياناً كثيرةً، ويبقى التدافُع هذا بين الحق والباطل هو طبيعة مركوزة فيهما تجعلهما أعظم تدافعاً من المتناقضات الطبيعية السالب والموجب.
/3 الاعتراف بالوجود لا يعني الاعتراف بالمشروعية : عبارةٌ صكت الآذان وسارت بها الركبان وهى «لا بد من الاعتراف بالآخر»! إن الاعتراف بوجود الآخر شيءٌ والاعتراف بمشروعية هذا الوجود شيءٌ آخر، إن اعترافنا بوجود الضلال والكفر والانحراف لا يعدو أن يكون كاعترافنا بوجود إبليس!! إذ إبليس هو مصدر هذا كله فإذا اعترفت بوجود سارقين أو آكلي ربا أو زناة هذا لا يعنى أن اعترف بمشروعية ما فعلوا، ولا يعنى أن أقنِّن هذا الوجود، ولا يعني أن أعطيهم حق توسيع هذا الوجود، ولا يعني أن يكون لهم الحق فى دعوة الآخرين أن يفعلوا مثل فعلهم وإلا فإذا كان كل ذلك جائز مني بوصفي مسلماً فما الفرق بين الإسلام والحضارة الغربية؟ وهل الذين يقولون بجواز تقنين الباطل، وحقه فى التوسع، وحقه فى الدعوة الى باطله، كانوا يصدرون عن مرجعيتهم الإسلامية أم عن هزيمتهم النفسية أمام الغزو الثقافي الغربي فلا هم فهموا الإسلام ولا هم امتلكلوا القدرة على الذَّبِّ عنه وتوضيح أفكاره وتصوراته، لكنهم مع هذا كله تصدروا للحديث باسمه وتمثيله!!. أيها الآخر يخدعك أولئك الذين يزعمون أننا شيءٌ واحدٌ ولم يُرد لك خير الدنيا والآخرة الذي لم يكن معك صريحاً فى بيان أنَّنا مختلفون ومختلفون جداً وليس الحل فى أن تترك دينك وأترك ديني لنعتنق ديناً جديداً اسمه الإنسانية، ولكن الحل أن ندير حوار الصراحة والوضوح بحكمةٍ وحسنى.