بسم الله الرحمن الرحيـم

إن العالم في هذه الأيام تجتاحه أمواج عاتية من الفتن والبلايا والمصائب والرزايا زادت في المسلمين فرقة وشقاقاً، واختلفت فيها أفكارهم سلباً وإيجاباً، وخطأً وصواباً، حتى غدا فريق منهم يكفِّر الآخرين إن لم يوافقوه رأيه، أو يتابعوه قوله، وهذا من تمام عتو الفتنة، وشديد بأسها، وجحيم ظلامها، وعدم البصيرة بعواقبها، وسوء مآلها عافانا الله منها، في وقت اتحدت فيه كلمة الكفر فكانت سواء، وحقيقتها :} تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى { [سورة الحشر]

وقد بدأوا في نفث سمومهم الصريحة على الإسلام، وظهرت العداوة على ألسنتهم:} قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[118] {[سورة آل عمران] .

كيف يتعامل المسلم مع الفتن وهذه الأحداث ؟ سؤال يُردَّد وما الجواب عليه ؟

إن الفتنة شديدة الظلمة، حالكة اللون، قاتمة الرؤية كما أخبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله: [ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ] رواه مسلم والترمذي وأحمد. وهذه الجملة لها معناها الدقيق، ومغزاها العميق؛ إذ لا نور فيها ولا سراج .

إن من يدخل إلى مكان مظلم في كهف أو سرداب؛ لا يفرق بين جامد ولا متحرك، ولا أسود أو أبيض، إنه يكثر من الالتفاف في جميع الاتجاهات: تارة يتقدم، وتارة يتراجع، مرة يظن أنه قد اهتدى إلى الطريق، وأخرى يدرك ضلاله البعيد، وأن سيره الطويل كان عبثاً وضياعاً لما كان يجب عليه فعله .

إنه في هذه الظلمة لا يفرق أو يميز، فقد يضرب جامداً ويظنه متحركاً، ويلطم صديقاً يظنه عدواً، ويسمع صوت مخادع فيحسبه ناصحاً، وكل من يسمع تحركه يسارع إلى ضربه والشك في حركته وقصده، وهو دائما يسئ الظن ولا يأمن، ويجري إلى كل صوت يسمعه، سلاحه مشهر دائماً، فلا مكان له يثبت فيه ولا استقرار، وقد يقترب من هلاكه ظاناً أن فيه نجاته.

أصول السلامة لكل قارئ وسامع:

قواعد في التعامل مع الفتن

القاعدة الأولى: ردها إلى الكتاب والسنة:

فتعرض تلك الوقائع والأحداث على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عرضا متجرداً بلا تعصب، أو هوى، أو عاطفة، أو حماساً، أو اندفاعاً، وارتجالاً، فما وافقهما؛ قُبِل وعمل به، وما خالفهما؛ رُدَّ، مهما كان قائله وناقله، وبغض النظر عن الداعي إليه وناشره؛ لأن الإسلام معناه: الاستسلام التام المطلق لله ورسوله، فلا إسلام بلا استسلام : }وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {[سورة الشورى] وقال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [59] { [سورة النساء] .

القاعدة الثانية : الاعتصام بالكتاب والسنة:

في سائر شئون الحياة قولاً وعملاً وتحكيماً، فذاك طوق النجاة في بحر تلاطم المظلمات:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[103] { [سورة آل عمران] وقال الله سبحانه:} وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[101]{ [سورة آل عمران] وقال سبحانه:} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153] {[سورة الأنعام] .

وهذا النبي صلى الله علية وسلم يخبر صحابته ويحذر أمته قائلاً: [ أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ] قالوا: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد .

وقال عليه الصلاة والسلام : [ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي] رواه الحاكم- بنحوه- . فمن اعتصم بهما؛ فقد تكفل الله له بالهداية في الدنيا والسعادة في الأخرى:} فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[123] { [سورة طه].

القاعدة الثالثة : ربط الناس بالعلماء الربانيين:

بسؤالهم، والأخذ عنهم، والصدور عن رأيهم؛ فهم نجوم الأرض يهتدى بهم ويسار خلفهم، وأمرنا بسؤالهم:} فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[43] {[سورة النحل، والأنبياء] .

وأمر الله تعالى برد الأمور إليهم:} وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[83] {[سورة النساء]

و { أُولِي الْأَمْرِ } هنا: هم العلماء .

وقد أخذ الله عليهم العهد والميثاق بالبيان وعدم الكتمان:} وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [187] {[سورة آل عمران] فيلزم حث الناس على الأخذ عنهم، والالتفاف حولهم، وعدم تنقيصهم، أو التقليل من دورهم، أو اتهامهم في مقاصدهم وأقوالهم، وهذه فتنة أخرى يقصدها أهل الفتنة، ويرومها أهل الباطل؛ ليتخبط الناس في ظلمات الجهل بلا قائد عالم، فيعملوا وفق عواطفهم وحماسهم، فيفسدوا في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.ولتعلم أن من علامة إعراض الله عن عبده أن يصرفه إلى مالا ينفعه، بل لربما وقع فيما يضره.

إن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة:} وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {[سورة آل عمران] .

إن قطع الحبل بين العلماء والعامة هو مايحيكه ويخطط له أعداء الإسلام في القديم والحديث، وقد اشتد الآن لما رأوا فجر الإسلام يضيء، ونوره يشع، وعجلته تسير؛ فرموا بثقلهم في تلك الفتنة وانساق معهم – مع الأسف – بعض رجال الإسلام من حيث يشعرون، أو لا يشعرون؛ لقطع الصلة بين العلماء والناس، فامتلأت سجلات أهل الباطل بالانتصار في هذا المضمار في وقت وجيز، ولحظات يسيرة، لم يكونوا يحلمون بتحقيقها في عقود من السنين.

قولوا لي بربكم إذا أشيع الحديث في العلماء، فمن أين يستقي الناس، وإذا رُدِم مورد مائهم تفرقوا في الأودية والشعاب؛ بحثاً عن مورد جديد، فمنهم من يضل الطريق، ومنهم من يهلك قبل الوصول، ثم متى يجد الناس مورداً لهم يتفقون على الأخذ منه ويقبلوا به، وتجتمع عليه الكلمة ويوحد الصف:} وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[46] {[سورة الأنفال].

وهنا سؤال أطرحه: لماذا تحرص وسائل الإعلام – ومنها ما عرف بعدائه للإسلام – على عرض أقوال العلماء في هذه الأحداث بخاصة، وتكرر ذلك وتعرضه للنقاش في الساحات ؟ لماذا ؟

أليس من أهداف ذلك: زرع الفرقة، وإيجاد الشقاق والخلاف والطعن والغمز والهمز واللمز. فإياك- وفقك الله- ثم إياك أن تشارك معهم في مقصدهم، وإذا كان الذب عن عرض المسلم واجباً ومتعيناً فكيف بالمسلم العالم؟! وأين تلمس الأعذار لهم؟

وإذا كان لا بد من نقاش فليكن وفق أدب الخلاف بِدْءاً من طلب الحق فيه واحترام المخالف، وعدم الخروج عن محل النزاع إلى شخص الطرف الآخر وتجريحه، وليكن بعرض القول من دون نسبته إلى قائله خاصة في زمن الفتن مع عدم الدخول في مقاصد القائل: [ أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ] جزء من حديث رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- وأبوداود وأحمد. مع الحرص على تراص الصف، ووحدة الكلمة، وتماسك الأمة، والخندق الواحد، وتأمل هداك الله وأرشدك للحق كيف خالف ابن مسعود عثمان بن عفان - رضي الله عنهما - برأيه في إتمام الصلاة بمنى زمن الحج ووافقه بفعله ولما عوتب في ذلك قال: ' الخلاف شر ' . وصدق هذا الإمام الخلاف شر.

القاعدة الرابعة: وجوب التحري والتثبت:

قال الله تعالى: } وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[83] {[سورة النساء] .

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: ' هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحقيقها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة ' .

وقال الله جل وعلا:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ{[سورة الحجرات] وفي قراءة عامة قراء أهل المدينة : }فَتَثَبَّتُوا {فإذا كان هذا خبر الفاسق فما ظنك بتصريح وبيان الكافر خاصة إذا عارض بيان وتصريح المسلم . لا ريب في تقديم بيانه .

إذا علمت هذا: فاعلم وفقك الله أن الأخبار لا تأخذ من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء بإطلاق؛ وذلك ممن همهم الإثارة والسبق والإرجاف، وبث الخلاف بين أمة الإسلام، فلا تكن –وقاك الله الفتنة - بوقأ معهم لنشر الإرجاف والفتنة.

القاعدة الخامسة: ماكل مايعلم يقال:

قال صلى الله عليه وسلم: [ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا- وفي رواية: كَذِبَاً- أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ] رواه مسلم وأبوداود .

وما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لهم وعليهم فتنة، فإن النفوس تختلف، والمدارك متنوعة، والمقاصد متضاربة، وهم بين مشرِّق ومغرِّب، ومتفائل ومتشائم، وتحليلاتهم للأخبار والأحداث ليست سواء، فعلى العبد أن يضبط ما يقول فيما ينقل ولمن ينقل .

القاعدة السادسة: اللجوء إلى الله بالدعاء والعبادة:

كثر الحديث زمن الفتنة: إلى أين يركن الناس في أحوالهم؟ وإلى أين يفرون بأموالهم؟ فمن قائل: إلى الشرق، ومخالف إلى الغرب، ونسوا الفرار إلى الرب:} فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ[50] { [سورة الذاريات] والاستعانة بما أمر الله} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ[45] {[سورة البقرة] ومنه الاستعاذة من الفتن، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بالاستعاذة من الفتن فقال: [ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ] وكان – عليه السلام – يستعيذ من فتن المحيا والممات دبر كل صلاة قبل السلام.

وبوَّب الإمام البخاري في صحيحة باب: التعوذ بالله من الفتن] . كما أورد في كتابه 'الجامع' حديث أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: [ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ] فانظر كيف قلق النبي صلى الله عليه وسلم في منامه واستيقظ بسبب الفتن فأرشد أمته إلى العلاج بالدعاء والعبادة والالتجاء إلى الله سبحانه . وفي الحديث الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد-واللفظ له-.

القاعدة السابعة: لزوم جماعة المسلمين:

فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، فيلزم التحلق حول العلماء وولاة الأمر، وعدم شق عصا الطاعة أو نزع يد من جماعة:} وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[46] {[سورة الأنفال]. فهو من أوجب الواجبات، ويشتد وجوباً في الأزمات؛ إذ الفتنة عمياء، ذات سفك لدماء وقتل لأبرياء، وإزهاق لأرواح مظلومة وأنفس معصومة، وهي وباء فتاك سريع الانتشار، تصيب الصالح والطالح، والعالم والجاهل، والناصر والمخذول فأين قاعدة: ' دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ' وما يتفرع عنها، وقاعدة:' سد الذرائع ' التي تطبق في مسائل خاصة بالفرد ويستدل بها ؟ أين هي في مثل هذا الوقت وهي تشمل أمة الإسلام ومصالحها ؟ .

القاعدة الثامنة: الحذر من الخوض في مرويات الفتن أو الاعتماد على الرؤى:

يقرأ البعض في أحاديث الفتن وقت الفتنة، ويقوم بإنزالها على الواقع من دون علم، أو بصيرة، أو يعتمد على الرؤى والمنامات، وهذا خلط وخطأ، فالواجب ردها إلى أهل العلم والبصيرة؛ فهم القادرون على تنزيلها، وترقب مصالحها ومفاسدها، والمنامات لا تؤخذ منها أحكام ولا تبنى عليها أحداث.

القاعدة التاسعة: قراءة التاريخ الإسلامي:

قراءة تدبر وتأمل، فلطالما مرت فتن فيه زلزلت القلوب وأقلقت النفوس، حذَّر من عواقبها وآثارها العلماء العاملون ؛ فلم يسمع لهم الجهلة والعوام، وانخدع البعض ببريقها وزخرفها وعاش أحلامه معها، فكان فيها هلاك المسلمين وضعف انتشار الإسلام .

القاعدة العاشرة: الفتنة بلاء:

والدنيا دار ابتلاء وهي تمر بالمؤمن ليزداد إيماناً وقوة وإسلاماً وتصديقاً بوعد الله:} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ { ماذا ردوا بألسنتهم: }قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ { هل شكُّوا أو تراجعوا:} وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ { هل نقص إيمانهم أو ضعف:} وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا{ [سورة الأحزاب] .

القاعدة الحادية عشر: من أين جاءت الفتنة ؟

يخوض الناس في ذلك خوضاً بلا بينة ولا دليل ولا استدلال، فيرموا بها أناس منها براء، والحقيقة } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30] {[سورة الشورى] فالنفس هي المتهمة:} أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ...[165] {[سورة آل عمران] وهذا عام في كل مكان:} ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ { وما سببه؟: } بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ { وما الحكمة؟ } لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[41]{ [سورة الروم] . فهل أدركنا هذه الحكمة فيما وقع بنا ويقع؛ فجددنا توبة وأوبة لله ؟ .

وليعلم المسلم أن الفتنة إذا ظهرت بقرنيها ركبها العامة وانساقوا معها، وعرفها العلماء فحذروا منها، فإذا ذهبت وانتهت عرفها الناس ولكن بعد فوات الأوان.

يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :' إن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيراً فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبيناً لهم مضرتها وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلها... ثم قال: ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه، ولهذا كانت من باب النهي عنه والإمساك عنها من المأمور به الذي قال الله فيه:} فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63] {[سورة النور] ' .

واخيراً

نداء إلى العلماء والدعاة وطلاب العلم لفتح صدورهم وأبوابهم لسماع ما لدى الناس، والصبر على أذاهم وامتصاص حماسهم، وتوظيفه فيما ينفع ويفيد ويعود على أمة الإسلام بالخير والأمان: من إغاثة المنكوبين، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهذيب النفس وإصلاحها، والدعاء للمسلمين وجمع كلمتهم على الحق والدين، وثني الركب عند العلماء، ولنتذكر جميعا قول نبينا صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح- : [ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ] .

إن الكلمة الطيبة تحجب صاحبها عن الناس، وتسوقه إلى الجان برحمة الرحمن، فكيف بكلمة تجمع المسلمين على الحق: علماء وعامة، وتخمد الفتنة، وتسوق الأمة إلى القمة.

نسأل الله تعالى برحمته أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه

كتبه / القاضي أبو محمد النجدي