"... اعتذرعن الانقطاع، إذ ألمت بي وعكة صحية ولله الحمد من قبل ومن بعد.

أن الأنبياء جميعاً بعثوا بالإسلام ودعوا أقوامهم للإسلام مع اختلاف شرائعهم وتباين أحكامهم، إلا أن المشترك بين الأنبياء جميعاً وهو المعنى الدقيق الذي أردت التنبيه اليه، هو أن المسلم له وهو الله عز وجل قبولاً لأحكامه وإذعاناً لتشريعاته وخضوعاً لقوانينه ونظمه، فالأنبياء جميعاً بعثوا لإقرار حاكمية الله على خلقه، ومن ثم إقرار ألوهيته، والألوهية ثمرة الحاكمية «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه»، لكن الذي شرعه الله عز وجل لموسى يمكن أن يكون غير الذي شرعه لعيسى أو محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام، وإذا تبين أن الإسلام إنما هو التسليم لله تبارك وتعالى بغض النظر عن المسلم به، علمنا فلسفة إعذار المتأولين من فرق المسلمين ومجتهدي الأمة واتباعهم على اجتهادهم، فالجميع إنما أراد التسليم لله عزَّ وجلَّ، واجتهد وبذل في ذلك وسعه لمعرفة مراد الله عزَّ وجلَّ حتى يسلم له، ثم نظر في نصوص الوحي التي هي مظنة معرفة مراده، وانتهى اجتهاده بعد النظر السليم في النصوص إلى تحريم شيء أو إباحته، فإنه قد قام في قلبه تسليم عظيم لله عزَّ وجلَّ، ولذلك جاءت النصوص بالحكم له بالأجر وليس بالعذر فقط، وإن كان ما حلله هو عند الله في الحقيقة حراماً أو ما حرمه هو عند الله فى الحقيقة حلالاً، وهذا المعني اللطيف العظيم الجليل الذي يدل على سعة الشريعة وعظيم أحكامها يكشف عن ثلاث حقائق:
1/ ليس بمقدور الشخص أي شخص كان أن يصيب الحق في كل مسألة من مسائل الدين، فإن العجز وتفاوت الناس في الفهم والمقدرات الذهنية يقف عائقاً بين الإنسان وتحقيق الإصابة في كل مسألة.
2/ التفريق بين الحق والحقيقة، فإن الحق أن تعمل الشيء بطريقة صحيحة، والحقيقة هى أن تدرك الشيء الصحيح، وإدراك الشيء الصحيح لا يحسنه كل أحد ولا يحسنه الإنسان في جميع الأحوال وإن أحسنه أحياناً، أما أن يعمل الشيء بطريقة صحيحة فيسلك له مسالكه ويتبع الطريق الموصل إليه بالنظر المتجرد في النصوص، وقد ينتهى إليه وقد لا ينتهى، ولكن الله ينظر إلى عظيم سعيه فيثيبه عليه وإن أخطأه .
3/ إن الناس في الاستدلال بالنصوص على ميمات ثلاثة:
1/ مصيب وهو الذي نظر في النصوص فأصاب الحقيقة ووقف على مراد الله تعالى وله أجران.
2/ متأول وهو الذي نظر في النصوص فأصاب الحق برده إلى الكتاب والسنة على وجه التسليم والإذعان، ولكنه لم يصب الحقيقة ولم يقف على مراد الله كما هو، بل قام بتأويل المسألة لعارض عرض له لغوي أو شرعي، وهو صاحب أجر على ما أصاب الحق، ولا إثم عليه في عدم إصابة الحقيقة، إذ ليس ذلك مقدوراً عليه في كل حين، وفى حديث أم سلمة «إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ، وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي نَحْوَ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» فانظر لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو ما سمع، فعمل بالحق الذى أمره الله عزَّ وجلَّ به، وهو أن يحكم بحسب ما ظهر له من البينات والشهود، وان كان هذا الحكم مخالفاً للحقيقة. والمتأول يقبل تأويله ويصيبه من رحمة الله الأجر إذا كان تأويله سائغاً لغوياً وشرعياً، وأن يكون مستدلاً على فهمه بنص ليس معتداً فيه بعقل أو عرف أو عادة. والاستدلال بالنصوص والعناية به هي اقصر الطرق في إعذار المتأولين، سواء أكانت الآراء التي يقولون بها مخالفة في مجال العقيدة أو الشريعة وفى مسائل الأحكام أو مسائل الكفر والايمان، ولا فرق ما داموا إلى الوحي يحتكمون وبنصوصه يستدلون، وإلى ما انتهى إليه اجتهادهم يسلمون ويذعنون.
3/ المشاغب وهو الذي يتحكم في النصوص ولا يحتكم إليها، ويقدم عليها العقل ويعمل على توظيفها، فهو يتبنى ثم يستدل، فبعد تبنيه لموقف ما يذهب فيبحث عن أدلة له، فإن وجد أدلة تعضد ما ذهب اليه طار بها وفرح، وان وجد من النصوص ما يخالف هواه وينقض ما تبناه قال ربما ... وربما .... ربما كان الحديث ضعيفاً، وربما كان صحيحاً.. لكنه منسوخ وهؤلاء هم الذين رفع أولهم أفسد مقالة قيلت فى الفقه الإسلامي «كل نص يخالف قواعد المذهب يؤول أو يهمل» !! وهؤلاء آثمون لا حظ لهم من الأجر ولا العذر .
وما أردت بيانه في ختام هذه المقالة هو القول ليست المسألة أن تتبنى تحريماً أو تحليلاً أو تتخذ موقفاً شديداً أو متساهلاً، وإنما الأمر مداره على ركنين عظيمين:
أولهما: هذا الموقف من التحريم أو التحليل على أي شيء بناه الشخص؟ هل بناه على الاستدلال بنصوص الوحي على وجه التسليم لا على وجه الانتصار لحزب أو جماعة أو شيخ أو مذهب أو موقف، فإنه إن بناه على قاعدة التسليم لله بعد بذل الجهد في النظر للنصوص وجمعها فإن له أجرين أو أجراً واحداً، وإن كان منتهى ما ذهب إليه تعده بعض الطوائف كفراً فإنه لا يكفر بل يثاب ويؤجر على ما استقر في قلبه من التسليم لله، إذ ليس الاسلام إلا ذاك، وإن بناه على تعصب وتحزب وتفيقه في الدين وتقليد لشيخ أو إمام فإنه على خطر عظيم، إذ لم تغش معاني التسليم قلبه ولم تحل بفؤاده.
ثانيهما: ما هو موقفه من المخالف له في الرأي المباين له في الموقف إن كان مستدلاً متأولاً هل يعذره ويشهد له بما شهد له به النص أم يكفره ويبدعه، فإن كان موقفه هو الأول فهو أسعد الفريقين بالوحي حين تبنى موقفاً وحين تبنى الموقف الصحيح ممن يخالف في الموقف !! إذ تبنى بموجب النص واتخذ الموقف ممن خالفه بموجب النص، وهذه هي النصية التي من عقلها علم أنها أعظم مذاهب المسلمين اعتدالاً وأعمقها فقهاً وأوسعها فهماً وأكثرها تعظيماً للوحى وإحياءً لمكانة الدليل.
ومن سفه رمي المحرمين للمحللين بالتمييع ورمي المحللين للمحرمين بالتشدد إن التزم الطرفان ما ذكرته من أفكار وبينته من مسائل، فالتشدد في دعوة الجميع للاستدلال بالنصوص وإحيائها والتساهل في مآلات تلك الاستدلالات حرمة أو حلاً هو المنهج السليم لتطويق التكفير غير الشرعي والتكفير المضاد.