[align=center]
كان مجلس العزاء مأساوياً بشكل لا يمكن تخيله، فالميت شاب والموت مفاجئ، والعزاء في يومه الأول، المعزيات يصطففن في الصالون، وفي الغرف المجاورة، الوجوه تبدو متعبة، وحزينة، حتى تلك التي لا تربطها بالأم سوى المعرفة والتزاور البعيد، بحيث مضنٍ لكرسي لمن حضر متأخراً، يضطر معه المقربون إلى الوقوف في الردهات حتى يستطيع الضيوف الجلوس.
الحزن يقطع المكان، حتى من أراد الحديث الهامس مع من بجانبه يصيبه داء الخجل من تمزيق رداء هذا الصمت الساكن في الوجوه، والجدران، والمكان.
ومع ذلك، ومع كل هذا النظام الصمتي المغلق الذي حاول أن يشكل قلعة حصينة للمكان، كان هناك آخرون وبسلطة لا مسؤولة قادرون على تكسير أروقة هذا الصمت، وتمزيق أوراقه، وقذفه خارج المكان، ليحتلوا هم فقط كل شيء حتى الهواء، والقدرة على الاعتراض.
بعض المعزيات كان تواجدهن مختلفاً تماماً، وكان جوالاتهم أسبق في الحضور منهن، في ذلك الزحام الشديد كان صوت الأغاني من كل لون يصدح والأيدي تمتد إلى صف المعزيات، وكان صوت الأغاني يلعلع، والصفوف متراصة، والوجوه تركز النظر في بعضها.
كان البعض يترك الرنين يواصل ليقطع صمت العزاء، ومأساوية الموقف وبمجرد الجلوس، يخرج الجوال ويبدأ الرد، من تحصنت بالخجل ترد في كلمة وتغلق، ومن ارتأت أن الأمر غير ذلك واصلت الحديث، وكأنها خارج هذا المكان، وهذا الزمان مع استغراب محدود من بعض الوجوه، وعادية من الوجوه الأخرى.
المشكلة أن الناس بدأت تتكيف مع هذا الأمر، وتدرجها في نطاق العادية، والشيء الآخر أن جميع الناس، أو لنقل أغلبهم، أصبحوا لا يستغنون عن الجوال وعن متابعة الآخرين، وعن تسجيل خط سيرهم.
وأيضاً هناك من يشعر أن هذا الجوال إن يُغلق بأي حال من الأحوال، وأن مجرد إغلاقه ولو لساعة واحدة يعني نهاية الكون، وأن هناك ما هو مهم سيفوته، ولن يلحق به بعد انتهاء هذا الزمن.
الأهم من ذلك أن البعض فقد احترامه للأمكنة، وفقدت هذه الأمكنة قيمتها لديه، ففي المسجد يرن الجوال دون مراعاة لحرمة هذا المكان الطاهر، وفي الحرم ينطلق الرنين في الطواف، والمسعى، وفي مجالس العزاء لا تقدير لهؤلاء الموجوعين، أو احترام لمجلسهم، ولا تقدير لمصابهم، فالبعض وإن أطال الجلوس في العزاء حتى ما بعد العشاء سيظل طوال هذه المدة ممسكاً بجواله في ضحك وانسجام، وكأنه لن يعود إلى منزله.
في الندوات والمحاضرات، رنين الجوالات لا ينتهي رغم كل المحاذير وكل الرجاءات المكتوبة، والمسموعة قبل بدء الندوة، أو المحاضرة، فالجوال لا يتوقف رنينه، والمغادرة للقاعة تظل مستمرة طوال الندوة للحديث خارجها.
في الطائرة وبمجرد أن تنزل على الأرض يبدأ رنين الجوالات والحديث الذي يسمعه كل من في الطائرة.... وصلنا... الرحلة أبد ممتازة... ونزلت بسهولة.... شيء موجع ومؤلم ويدفع إلى الغثيان في الصعود قبلها وأثناء تجمع الركاب يبدأ الحديث (الطائرة مليانة الآن دخلنا وكلام ماسخ....).
في المدارس بعض المدرسين، والمدرسات داخل قاعات الدروس يتحدثون ويجيبون وينهون كثيراً من الأعمال.
حتى الجلسات الخاصة والجميلة بين الأصدقاء، والأحاديث المتصلة دائماً ما يقطعها رنين الجوال، ويفسد استرسالها.
صديقة لي نجتمع أنا وهي ومجموعة كل فترة عندما تعود من بعثتها في الخارج تشترط علينا في المكان الذي نجتمع فيه أن لا نستخدم الجوالات إلا في أضيق الحدود فأقول لها مثلاً، تقول لو مت اتصلوا، أو لو مات أحد سوف يرسلوا لكم رسالة بمعنى لا شيء مهم ويستحق إفساد جلسة صافية ونقية قليلاً ما تتكرر، تشترط إيضاً عدم فتح التلفزيون، وتسارع بتخبئة الريموت كنترول، إن كان الاجتماع في منزلها، وفي منزلي تصر على إغلاقه، وأيضاً في منازل الصديقات الأخريات تجعل التلفزيون مكتوماً دون صوت إن أصرت إحداهن عليه.
احترام الآخرين هو ما أريد الوصول إليه، احترامهم بالإرادة، وليس بالطلب، احترام الإرادة يعني تقدير الشخص لنفسه أولاً، واعتزازه بقيمتها، وعدم إهدار فهمه للحياة من خلال المشاركة والمواساة، أو حضور ندوة أو غيرها دون إحساس متكامل بما ينبغي أن يلتزم به ويفعله كشخص مسؤول عن تصرفاته مسؤولية كاملة ومن ثم تقديره لغيره، وللمكان أيضاً.
ولكن مع تغير هذه المفاهيم، وانعدام الوعي، والإدراك، وغياب التشخيص لهذه الحالة التي لا تبدو ظاهرة كثيراً في الغرب حيث لا يستخدم الجوال إلا في أضيق الحدود وله أماكنه ويعاقب من يسيئ استخدامه بطرق تتفاوت من دولة إلى أخرى يبدو الوضع لدينا بعيداً عن ما يجري لدى من اخترعوا الجوال.
(فهذه قاضية محكمة لاك الإقليمية أمرت باحتجاز مجموعة من الحاضرين لإحدى جلسات محكمتها بعد أن طفح بها الكيل لرنين هواتفهم الجوالة للمرة الثالثة أثناء قيامها بالعمل، وبعد فراغها من استجوابهم حكمت على اثنين منهم بأداء الخدمة الاجتماعية لعدة ساعات عقاباً لهم على ما اعتبرته إهانة للمحكمة).
واعتبرت القاضية أن ثلاثة من الحاضرين الخمسة للمحكمة مدانين بتهمة ازدراء المحكمة لأنهم رفضوا في البداية الإشارة إلى الشخصين اللذين تلقيا الاتصالات الهاتفية، وقد وافقت متلقيه الاتصال الأولى على دفع ( 100دولار) على رنين جوالها ورفضت أداء الخدمة الاجتماعية.
أما متلقي الاتصال الثاني واسمه (فيرديل فيل) فاعترف أنه أطفأ جواله حين أمرت القاضية بإطفاء الجوالات لكن نعمة إغلاق بدت لها وكأنها رنين، وقد اعترف بأنه لزم الصمت حينما سألت القاضية الحضور عن أصحاب الجوالات المزعجة.
أما (شونيك فريمان)فلم يرن جوالها المسكينة ولكن كارثتها أنها كانت تعرف إن الرنين صادر من جوال فيردل فيل غير أنها لم تتطوع بإيضاح ذلك للقاضية. فحكمت المحكمة على من أغلق جواله وعلى من تكتمت عليه بالخدمة الاجتماعي لمدة ( 40ساعة).
هذا الفهم المتحضر لاحترام الأماكن وتقديرها لماذا لا تتعلم منه وتسايره؟
وهذا العقاب هل تستوعبه كمفهوم حضاري؟
ولماذا لا يكون لدينا إدراك فطري عميق للقيم الفعلية لكل مكان؟
ولماذا لا تسن كل المؤسسات قوانين تحمي الآخرين من أذى الجوال وانتهاكه للهدوء، وكسره لمقاييس الاستماع؟
لماذا لا يتعلم أفراد المجتمع نفسه التوجيه، ولن أقول النصح فقط لاحترام هذه الأماكن مع إيماني أن هناك من سيقفز في الوجه وسيتهم هذا باللقافة وتدخله فيما لا يعنيه؟
لماذا لا نستفيد من مدمني الجوال في الخدمة الاجتماعية وما أكثرهم ولكن دون جوالاتهم؟
هل نحن قادرون على ذلك باستيعابي لقانون المجتمع الجديد. وتفهمي لما يجري، وسرعة مرحل الانتقال في المجتمع أشك في أن يكون هناك رادع أو عقاب أو حتى تفهم أو ارتقاء في الفهم، وأتوقع الأسوأ وزيادة في سيارة كسر الاحترام وإفساد المناخ المتبقي من ثقافة كل مقياس موضوع من الممكن أن يبقى ليشكل الميزان الحقيقي في الحياة بعيداً عن التخريب السائد في النفوس وشيوع الحسابات التي لا تخضع لمعايير حقيقية، ولا يمكن طرح الأسئلة عليها، أنه زمن يتضاعد الفراغ النفسي والاجتماعي داخله دون أي قدرة على الإيقاف أو التصدي أو المحاسبة، أو حتى استلهام الحلول.
بقلمـ
الاخــــــــــــــت الكريمهـ
نجوى هاشم
[/align]