[align=center]
بين سلطة
الثقافة وثقافة السلطة..
(1)
التفكير في علاقة الثقافة بالسلطة دائما يقود إلى محاولة تفكيك "الحراك الاجتماعي" وعلاقته بالحراك الثقافي فأنا من المهتمين بفكرة "مقاومة التغيير" وقد سميت بالخطأ هذه المقاومة قبل عشر سنوات تقريبا "المقاومة الثقافية"، وكنت انظر لها على انها حراك ايجابي يتشكل داخل المجتمع ليمنعه من "الذوبان" ومن التفكك وخسارة "القيم المشتركة" التي تشكلت خلال القرون الماضية. إلا انني لا انكر اني صرت انظر للأمر من وجهة نظر أخرى، لم تعد "حالمة" ولم تعد متشددة وتتمسك بالثابت الواهم على حساب المتغير الواقعي، كما كانت في السابق، فمقاومة التغيير بشكل أو بآخر تعني الجمود والتوقف عن الحركة وهو امر ينافي الطبيعة الانسانية بل ويتنافى في الجوهر مع الثقافة التي هي في حالة تغيير وفي حالة بناء مستمر. السؤال الذي طرحته على نفسي هو هل تعني "المقاومة الثقافية" مقاومة للتغيير؟ لقد كانت نظرتي لفكرة ان تكون لدينا ثقافة مقاومة على انها مسألة تتشكل في اللاوعي المجتمعي وتبقى لتمثل حارسا امينا يحمي المجتمع من مخاطر فقدان الهوية الكامل. إذاً الفكرة كانت مرتبطة في ذهني بحماية "الوجود" لا بالجمود وعدم الحركة وكنت استند في ذلك إلى القول "ان كل ثقافة تخلق ادوات امنها في كل المستويات"، والمقاومة الثقافية هي تعبير مباشر لفكرة الامن الثقافي، أي انه عندما تنشط المقاومة الثقافية فإن هذا يدل على وجود مخاطر تتهدد الثقافة. الثقافة المقاومة من هذه الزاوية ابعد ما تكون عن مقاومة التغيير التي تجعلنا نراوح مكاننا، ومع ذلك فإن سؤالا مثل هل تقود المقاومة الثقافية إلى مقاومة التغيير؟ خطر ببالي بقوة هذه الايام خصوصا وأنا ارى ان الكثير "يتمحك" في الثقافة من اجل ابطال كل محركات التغيير. هذا السؤال هو الاهم من وجهة نظري إذ ان "عذر" المحافظة على الهوية و"هوس" الثوابت التي صارت تحيط بنا وتبنى جدران مصمتة حولنا هي ادوات تفسر بها "المقاومة الثقافية" حتى ان "الخاص" جدا صار يسير ويشكل "العام".
(2)
لعلي هنا اؤكد ان "المقاومة الثقافية" ابعد ما تكون عن "التخطيط الواعي" للمحافظة على الثقافة، فهي من وجهة نظري "حركة عفوية" جماعية يمارسها المجتمع لا اراديا للمحافظة على وجوده وكينونته وعندما تصبح هذه المقاومة فعلا منظما ومخططا له تتحول المقاومة للتغيير بدلا من مقاومة ثقافية لها اسبابها في الوجود، إذ ان من طبيعة الانسان أن يحمي ثقافته ونمط حياته لأنها من اسباب وجوده، إما إذا تحول الامر إلى ظهور من يقوم بهذه الحماية قصدا وينوب عن المجتمع في حماية الثقافة فإن هذا سيؤدي إلى تراجع "المقاومة الثقافية" وظهور "مقاومة التغيير" الشمولية. الفرق هنا كبير جدا بين المقاومة العفوية النابعة من المجتمع من خلال "التجربة والخطأ" التي يمارسها افراد المجتمع وترشيحهم لمكونات الثقافة الاكثر اهمية ومحاولة الابقاء عليها وبين من يقوم بتحديد هذه المكونات من وجهة نظره الشخصية البحتة وفرضها على المجتمع والادعاء انها هي الثوابت التي يجب ان لا يأتيها الباطل من بين يديها او من خلفها. الفكر الشمولي هنا يصنع "مقاومة التغيير" لأنه يهدف بالدرجة الاولى إلى تغييب المجتمع عن "الفعل" والمشاركة في صنع الثقافة. هنا تصبح الثقافة مجرد فضاء للنخبة المهيمنة والصانعة للفكر الشمولي الذي لايقبل "للدهماء" ان تشاركه في بناء الصورة الثقافية المبتغاة.
(3)
هناك مجتمعات تشجع "مقاومة التغيير" على حساب المقاومة الثقافية، ويبدو أن هذه المجتمعات لديها الاستعداد لترك الفرصة لمجموعة من الافراد كي تسير المجتمع ككل وتفرض عليه شروطها ورؤاها وتصوراتها للعالم، لذلك نجد هذا المجتمع لديه المقدرة على قبول كل شيء دون اسئلة وتحمل كل شيء دون شكوى، وبل لديه استعداد منقطع النظير لتبرير "مقاومة التغيير" وربطها بصور ثقافية عليا تنعكس حتى على التفاصيل اليومية، فتتجمد التنمية وتبرد محركات التغيير والاصلاح كل مرة تحاول ان تدور وتتحرك. في اعتقادي أن هذه المجتمعات استطاعت عبر السنين تحييد الثقافة المجتمعية الفاعلة وحولت افراد المجتمع إلى مجرد "متلقين" فماتت لديهم المبادرة ولم يعد بمقدورهم "مقاومة" مقاومة التغيير التي تمارسها النخبة المهيمنة بشراسة. لا استطيع ان انكر ان مجتمعنا يعيش "مقاومة للتغير" واضحة، فنحن لانشعر بالتغير إلا ما ندر وكلما حاولنا ان نبحث عن مخرج إصلاحي، عدنا للمربع الاول وكأننا لم نعمل شيئا. لا اعتقد ان ما نعيشه له صلة بالمقاومة الثقافية، فنحن لا نبحث عن "كسر" لثقافتنا ولا نحاول أن نبدل جلودنا، لكن الخلط بين ما هو ثقافي وبين ما هو مرتبط بالهيمنة ومحاولة ابقاء الامور كما هي بحجة "الامن الثقافي" هو الذي يجعل من "التغيير"، شبه مستحيل، فأقصر الطرق لمهاجمة اي فكرة اصلاحية هي ربطها بالامن الثقافي الذي صار حجة تدفعنا إلى الجمود.
(4)
هناك من يضع اطرا لتطور الثقافة ويرى ان "المقاومة الثقافية" لايمكن ان تموت بل هي موجودة بيننا حتى لو حاول دعاة مقاومة التغيير كتمها ودفعها خلف سواتر عالية بقصد تهميشها. المقاومة الثقافية باقية طالما ان المجتمع حي حتى لو غيب. على ان الامر يعتمد بالدرجة الاولى على طبيعة الثقافة نفسها، فهناك ثقافة مغلقة لا تريد ان تعرف اي شيء خارج حدودها الضيقة وهذه الثقافة تحول المقاومة الثقافية إلى "سوار فولاذي" يكبل المجتمع ويصيبه بالسكون الابدي. هذه المقاومة غير المجدية تنمو وتترعرع في المجتمعات التي تفسح المجال "لمقاومة التغيير"، كما أن هناك ثقافة منفتحة تتجدد فيها المقاومة الثقافية لتأخذ اشكالا متعددة وتمد يدها للخارج لتجلب للثقافة الاصلية التجدد والحياة الدائمة. المسألة هنا مثيرة للجدل كون "قوة" المقاومة الثقافية مرتبطة اصلا بمدى انفتاح الثقافة، أي ان "قوة المحافظة" على الثقافة لا يعني ان المقاومة الثقافية ايجابية. ولعلي هنا اطرح فكرة "المقاومة الثقافية العقلانية" كإطار قابل للبناء يمكن ان ننطلق منه للأمن الثقافي دون ان نجر انفسنا إلى عزلة دائمة تفصلنا عن الثقافات الاخرى. على أن هناك من يرى أن "الحامل الثقافي" الجديد الذي غالبا ما يثير "المقاومة الثقافية" له دور مباشر في صنع عقلانية هذه المقاومة إذ ان من طبيعة المجتمعات على حد تعبير عالم الاجتماع (بارسونز) اكتشاف الخطأ (الحامل الثقافي الجديد) وبعد ذلك محاولة فهم الخطأ وتقريبه لمفاهيم ثقافية موجودة في الثقافة الاصلية وأخيرا تبني هذا الحامل الجديد وجعله ضمن الثقافة الاصلية. المهم هنا هو الفترة الزمنية التي يقضيها المجتمع منذ بدأ اكتشاف الخطأ إلى تبنيه هو ما يجعل مجتمعا متفوقا على آخر وهو الذي يجعل مقاومة ثقافية عقلانية ومنفتحة اكثر من الأخرى، وهذا له تبعاته التنموية المتعددة.
(5)
ربما نستطيع الربط بين سرعة استقبال الحامل الثقافي الجديد وبين التغير في الظروف الاجتماعية. فمقاومة التغيير التي عليها مجتمعنا والتي تتصاعد كل مرة مع كل حامل ثقافي جديد تطيل من الفترة التي يمكن ان نتبنى فيها الحوامل الثقافية التي تجعلنا قادرين على مواكبة العصر، وبالتالي نشعر دائما بالتأخر، وإذا ما تذكرنا أن مقاومة التغيير اصلا مرتبطة بفكرة الهيمنة وبالمصالح الشخصية لفئة محدودة داخل المجتمع سوف نكتشف أن الخسارة ستكون كبيرة على المدى الطويل لكل افراد المجتمع ولأجياله القادمة. مقاومة التغيير تتحدى، من وجهة نظري الشخصية، عقلانية المقاومة الثقافية وتدفعها إلى الانغلاق على الذات والحذر المبالغ فيه وتزيد من مساحة "الثوابت" على حساب المتغيرات والذي يدفع ثمن كل هذا المجتمع وتنميته واقتصاده. على ان الامر الاخطر هنا هو أن "مقاومة التغيير" غالبا ما تظهر للناس على انها مقاومة ثقافية تهدف إلى حماية المجتمع وبناء امنه الثقافي بينما هي لها "اجندتها" الخاصة التي تهدف إلى حماية مصالح الفئة التي تفرض املاءاتها على المجتمع ليس بهدف حمايته، بل من اجل تكريس وحماية هيمنتهم، وهو امر متوقع فكل فئة مهيمنة "تخلق ادوات امنها واستمرارها".
(6)
كل سلطة تصنع الثقافة الخاصة بها. والسلطة هنا متعددة الاشكال والاحجام فكل بيئة تمثلها سلطة وكل بيئة اجتماعية يقف على رأسها سلطة وكل سلطة تشكل "البيئة الثقافية" التي تنمو داخلها وتحدد ملامح عقلانية "المقاومة الثقافية" التي تنشأ في تلك البيئة. هناك سلطة منفتحة تفتح كل الابواب للثقافة العقلانية وهناك سلطة منغلقة تفتح كل الابواب لمقاومة التغيير وشتان بين السلطتين. على ان هذا لايعني ان السلطة تقف امام الثقافة أو ان الثقافة تقلل من حضور السلطة بل العكس صحيح إذ انه من المعروف ان "كل سلطة ثقافة" وأن "كل ثقافة سلطة"، ودرجة تقبل السلطة للحامل الثقافي الجديد هو ما يصنع الثقافة الجديدة ويرشد اي مقاومة للتغيير. علاقة السلطة بالثقافة مسألة اساسية إذ ان بقاء الثقافة وازدهارها يعتمد في الاساس على "انفتاح" السلطة على التغيير وتقبلها للجديد.
(7)
ربما تكون الفكرة الاكثر حساسية هي "التغيير" وهي مسألة نجد انفسنا في حالة خلاف دائم حولها ولا اعتقد ان هذا الخلاف في طريقه للانتهاء. الامر بالنسبة لي ليس في توقف هذا الخلاف (فهذا امر صحي ان يكون هناك رأي ورأي آخر) بل المشكلة تكمن في اولئلك المقاومين للتغيير الذي يحاولون فرض رأيهم بالقوة او بسرد التبريرات غير المنطقية لإبقاء الامور كما هي. ولعل هذا يقودنا إلى دراسة "سيكولوجية مقاومة التغيير" فأنا على يقين أن هذه الدراسة ستقودنا إلى اكتشاف الكثير من "حالات التشنج الحضاري" الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية قاطبة، وسوف تجعلنا نتقرب اكثر من العقل العربي المثقل بحب الهيمنة والسيطرة والتقوقع على الذات وعدم الرغبة في الانفتاح على الاخر. على الأقل قد تعلمنا هذه الدراسة اننا نعيش وهم "العظمة" و "التميز".
بقلمـ
د. مشاري عبدالله النعيم
[/align]