يرونها ولا تراهم... و"الله يرى الجميع"..
آلاء أبو عيشة- غزة:
كان مساءً صيفياً.. السابع من شهر إبريل لعام 2002.. لسعاتٌ حارة كانت تداعب وجه إبراهيم عبد العال الذي انتظر خارج غرفة الولادة ضارباً أخماسه بأسداسه.. يقول له أحد المقربين مطالباً إياه بالجلوس "ان شاء الله بالسلامة"، فيجيبه :"لعلك لا تعرف معنى أن تنتظر مولودك البكر"... ها هي عقارب ساعته بدأت ترصد موعد اللقاء.. إنها الثامنة وثلاثة وعشرون دقيقة... صوت زوجته (مشيرة) دوّى.. وحانت لحظة الخلاص.. "مبروك.. جالك بنت"... الأحداث تسارعت.. الطبيب يطلب رؤية إبراهيم,, يتجاهل النظر إلى عينيه ويخبره :"ابنتك وُلِدَت مشوّهة".. بوعي "اللا وعي".. أجابه :"كيف؟ لماذا؟ متى؟.....؟".. وانهار مستسلماً "أريد أن أراها"..
في حاضنةٍ صغيرة كانت تستلقي ابنته بينما تجمعت فوق رأسها الممرضات وقد أصابهنّ الذهول.. أفسحن له الطريق.. ورآها.. عقد حاجبيه وفتح فمه.. ابنته كانت بوجهٍ شاحب.. ليس شاحباً فقط.. بل "مخيفاً".. التشوهات كانت واضحة رغم كون عمرها لم يتجاوز بضع ساعات.. عينها اليمنى كانت مغطاةً بطبقةٍ من الجلد وصلت بين الوجنة والجفن "وكأن لا عين لها"..
أما العين الثانية (اليسرى) فكانت مفتوحةً "نوعاً ما" لكنها للأسف.. "بلا أجفان ولا رموش".. ويغطي القزحية فيها غشاءً شفافاً يمنع عنها إلا رؤية النور والألوان الصارخة.. هذا إن كانت قريبة من مكان تواجدها...
أنفها كذلك.. كان وكـأن له عظمتان.. وكأنه خُلِقَ ليتوزّع على أنفين.. أما يدها اليسرى فقد كانت بأصابع لم يكتمل نموّها بعد.. لا تستطيع استخدامها في صنع شيء أبداً..
حملها.. مضى بها نحو أمها التي كانت للتو أنهت جلسةً طويلة مع اختصاصيٍ نفسي أتى يمهّد لها تلقي الصدمة.. بسرعة حملتها.. قرّبتها من صدرها.. تمتمت :"أول فرحتي".. وأرضعتها..
كان هذا المشهد من ضمن مشاهد أول أيام الطفلة هديل إبراهيم عبد العال على وجه البسيطة.. وتلت هذا اليوم.. أيام.. فهديل التي تبلغ من العمر الآن (6 سنوات) لا يزال حالها هو ذاته رغم عمليات التجميل الكثيرة التي أجرتها.. هي ذاتها حياتها الاستثنائية.. "كفيفة" بعينين كاملتي التكوين "قزحية وقرنية وشبكية".. زرتُ بيتَ أبيها الواقع في حي الصبرة مقابل المجمع الإسلامي.. التقيتُها.. وها هي ذا تفاصيل حكايتها.. لكن لا تنسى عزيزي القارئ.. إن لمحت صورة "هديل" ضمن هذا التقرير.. أن تدعُ لها بالشفاء.. وأن تحمد الله على تمام خلقتك..
من يؤذّن لـ "هديل"؟!
بدأتُ اللقاء وقد اخترتُ لهديل أقرب الأماكن مني.. "حضني".. وبينما غلبها النعاس.. كنتُ أستمع إلى بقية التفاصيل على لسان والدها..
أحد الأطباء.. وفيما كان إبراهيم و"عائلته" يغادرون المستشفى قال له :"ابنتك هذه لن تعيش أكثر من أربعة أيام"، أجابه الأب غاضباً :"أأنت من يُحيي ويُميت؟".. كل هذا وقد كان خبر إنجاب (مشيرة) لفتاة مشوهة خلقياً قد انتشر انتشار النار في الهشيم.. وصلوا والحشود كلها تتدافع لترى ذات الوجه "مختفي المعالم".. عن ذلك يقول والد هديل :"كانت آثار الصدمة باديةً على ملامحي.. شكلُها الذي لم أكن أتخيل يوماً أنني سأرى مثله.. أنساني حتى أن أؤذن لها في أذنها اليمنى"..
ويذكر إبراهيم أنه أجاب جد ابنته حينما أتاه سائلاً عما إن كان أذّن لها أم لا –بعصبيةٍ مفرطة- : "ها هي في الداخل اذهب فأذّن لها وأقم الصلاة إن أردت".. يعترف إبراهيم أن الكلمة خرجت من لسانه فقط.. أما قلبه فقد كان يتمنى أن يكون في موقفٍ غير الذي هو فيه "لكنت أذنت وفعلت كل ما يدل على أنني أبٌ فَرِحٌ ببِكره"..
أسماها "هديل" بعد ثلاثة أيام على مضض.. هكذا فهمتُ منه.. وبدَأَتْ رحلة "التطبيب"..
عمليات.. لم تكتمل
في قطاع غزة لم يستطع طبيبٌ أن يعرف سر حالتها.. وكان أيٌ منهم يكتفي بالقول :"لم تواجهني حالة بمثل صعوبتها من قبل"..
حسب إبراهيم فإن بعض الأطباء كانوا جارحين في تعاطيهم مع الأمر فأحدهم على سبيل المثال لا الحصر –وهو مدير إحدى المستشفيات- رفض إعطاءه التحويلة.. وجرحه بعد أن قال له بلغةٍ عاميةٍ غليظة "يا شيخ روح ضبها في البيت.. لو انها بنتي ما بعالجها"…
"وبعد أخذٍ وعطاء" تضيف الأم :"حصلنا على التحويلة، وكنتُ من سافر معها إلى مستشفى (أُخْلُفْ) في إسرائيل –وكان عمرها أربعون يوماً-، حيث أجرت عملية تجميل في العين اليسرى بغية شق الجلد، إلا أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية لم تحالفنا في إتمام بقية العمليات"، وهنا توجه الأبوين بابنتهما نحو القاهرة حيث تأكدا من وجود عينين سليمتين متواريتين وراء الجلد… وتم إجراء عملية شق الجلد هناك، إلا أن الجفون عادت فالتحمت مرةً أخرى نتيجة عودة الأهل وابنتهم إلى غزة، ثم إغلاق المعابر لفترات طويلة الأمر الذي حال بينهم وبين العودة للمراجعة، ومتابعة الطبيب الذي أجرى العملية"..
مواقف "تؤلم"..
أبعد إبراهيم عن عقله بعد إنجاب "هديل" أي تفكيرٍ بإنجاب غيرها.. "خوفاً من أن يصطدم بواقعِ هديل أخرى وأخرى وأخرى…"، ثم عاد عن قراره وها هو اليوم أبٌ لأربعة أطفال كلهم أتوا إلى الحياة معافين.. إلا هديل..
وضعهم الاقتصادي صعبٌ للغاية، فكلهم ينامون في غرفةٍ واحدة (الأب والأم والأولاد).. عمليات هديل حمّلتهم فوق طاقتهم..
تقول الأم بنبرة أسى :"مسكينة هديل.. بعد أن أنجبتُ أخوها الصغير (أحمد)، وجدتها قفَزَتْ إلى سريري، وبدَأَتْ تتحسسُ وجهَهُ ثم أطلقت تنهيدةً قوية، وقالت الحمدلله… سألتها لماذا تحمدين الله أجابتني… لأن له عينان"… تردف الأم :"وقتها فهمت لماذا تتحسس وجه كل من تقابله من الفتية الصغار"، ذاكرةً موقفاً حدث معها حينما جاءت إحدى الجارات بهدية لعبة لهديل على شكل "تويتي" الطائر الأصفر.. والذي يمتاز يكبر حجم عينية.. حين قرّبت عينها "التي ترى فيها بعض الشيء" من الطائر ولمسته قليلاً وصرخت: يا الله له عينان كبيرتان.. يا ليت لي مثله.."
كلماتها من "دمع"!
هديل التي تتعلم الآن في مدرسة النور للمكفوفين.. وبعد أن كَسَرَت حاجز الصمت بيني وبينها، جرت إلى حيث غرفة نومها وجلبت أوراق واجبها المدرسي.. و"طريقة بريل" لم أفهم منها شيئاً، إلا أن أمها فهمتها!!.. فعرفعتُ بعد ذلك أنها التزمت بدورة تعليم الكتابة والقراءة بهذه الطريقة (وهي الطريقة المخصصة لتعليم المكفوفين القراءة والكتابة عن طريق اللمس) من أجل مساعدة ابنتها في دروسها..
بدأت هديل تعتاد على وجودي فطلبتُ منها أن تُنشد لي.. فاستذكرت كلمات.. كانت تعلمتها في فترة الروضة "نسِيَتْ بعضها فذكّرها والدها بها":::: "أنا اسمي هديل..عمري 5 سنوات.. أتعلم في مركز النور.. بدي أحكي معكم بلا حدود.. لأني لا أرى حدود بين الناس.. ولا الأوطان.. أنا ومعي أمي وأبي وأهلي.. قلقين على مستقبلي.. خصوصاً لأني بنت كفيفة.. كيف بدها تعيش البنت الكفيفة.. انتو شايفينّي.. بس أنا مش شايفاكم... بس الله شايف الكل... ما بدي أعيش على نفقة أحد.. بدي أتعلم وأصير معلمة.. علشان أساعد أمي وأبوي لما يكبرو"...
بصراحة.. كان مجرد النظر إلى وجهها وهي تنطق بهذه الكلمات يكفي كي "تنزفَ" عينك دمعةً "ليس حزناً على حالها فقط... بل نقمةً على الناس الذين يهمّشون حالتها.. فيعتبرونها مخلوقاً غريباً يمشي بينهم.. "يؤذونها بأبشع القول.. وينسون أنها في النهاية من خَلْقِ الخالق... أنها في النهاية.. "إنسان"..
وحتى تثبت أنها "مبصرة"...
هديل ذات البشرة البيضاء والشعر الأشقر "القاتم"، تحب ارتداء الألوان الصارخة "الأحمر.. الأخضر الفسفوري.. الأصفر والبرتقالي".. طلبت من والدتها شراء "فستانٍ للعيد المقبل".. سألتُها عن اللون الذي ترغب فيه قالت :"برتقالي".. وكانت تضحك بكل براءة..
جاءت بألعابها ووضعتها أمامي.. مكعباتٌ ملونة.. و"بيل" صغير يضيء باللون الأحمر.. وببغاء ملون ودب برتقالي جميل.. "قرّبت ضوء البطارية من عينها.. وبدأت تنظر إليه".. وحينما سألتُ والدها عن ذلك أجابني :"حتى تثبت لنفسها وللآخرين أنها مبصرة.. تحاول تقريب الضوء إلى عينها.. فتراه بوضوح"، تبقى هديل على هذه الحال وقتاً طويلاً من اليوم.. ويا من تراها تحمل ضوء البطارية "وحتى هاتف والدها المحمول" وتضيء به بالقرب من عينها المفتوحة.. كل هذا حتى تثبت أنها "مبصرة"...
مضايقات تطعن القلب..
"مرّت هديل بمواقف صعبة للغاية بسبب شكل وجهها"، هذا ما أكدته أمها.. فإن ذهبت عرساً تبقى ملتصقةً بها.. وإن ابتعدت عنها مسافة متر واحد فقط.. يجتمع حولها الأولاد لينظروا إليها.. ويتحسسوا مكان عينها اليمنى...
أما في الصباح وأثناء انتظارها لباص المدرسة يتحلق حولها الطلبة المنطلقين إلى مدارسهم.. تراهم "طشاش".. لكنهم يشيرون بأصابعهم إليها.. بعضهم يقترب منها ويسألها "لماذا وجهك هكذا"؟ حينها –حسب جدتها التي توصلها بشكل يومي إلى حيث يقف الباص- "حينها تصرخ بصوت عالٍ وتحرك يديها دون أن تدري أين توجهها.. تقول لهم.. ابتعدوا عني.. ابتعدوا عني"..
موقع يتحدث عن هديل..
والدها الذي بدأت جيوبه "تصفر" خصوصاً بعد أن صار عاطلاً عن العمل.. كان مصراً على متابعة علاج ابنته بأي طريقة، فلجأ إلى جمعيات الخير "لكن فظاظة المعاملة دفعتني إلى ابتداع فكرةٍ أخرى".. أما الفكرة، فهي أنه أنشأ موقعاً فيه كل ما يتعلق بابنته وسيرتها الذاتية، بالإضافة إلى مجموعة من الصور، والوثائق الطبية.. عنه قال الأب :"كان الهدف أولاً نشر حالة طفلتي، حتى إذا عرف الطب عنها شيئاً أجد من يدلني على علاج، وثانياً أطالب بمساعدة أصحاب المدونات بالمساهمة في نشر الرابط عن طريق إضافة وصلته، وثالثاً وهو الأهم.. أدعوا أطباء غزة "وأخصص عديمي الرحمة منهم" إلى أن يتذكروا دوما القسم الذي صدحوا فيه قبل أن يحملو مشرطاً أو مقص عمليات.. فيعاملوا الإنسان كما يجب.. لأن مهنتهم وُجِدَت أصلاً من أجل الإنسان..
عنوان الموقع عزيزي القارئ إن أحببت معرفة المزيد عن "هديل".. هو
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] .. ولا تنس إن قررت الاطلاع عليه.. أن تحمد الله على تمام الخلقة..
لله درّك يا "هديل".. لستِ فقيرةً من شيءٍ صدقيني إن أدركتِ أن أكبر أكبر الأغنياء "ربما يحسدك على سعادةٍ لا يلتمسها بين نقوده"... يحسدك على قلبك الذي سيبقى أبيضاً.. على عقلك الذي سيظل نظيفاً من رؤية الدنيا تشذ عن فطرة الله.. لستِ فقيرةً من شيء إن عرفتِ أنني أغبط فيكِ ابتسامة البراءة التي لم تختفي طوال فترة وجودي معك..
اكتفيتُ منكِ قبل الرحيل "بقبلة" طبعتُها على خدك الأيمن.. تمتمتُ في سري "أحمدك يا الله لأنك خلقتني فأتممت خلقي".. صافحتِني وطلبتِ مني زيارتك مرةً أخرى.. وأنا وعدتك.. ومضيت أدعو لكِ ولمن لا يقدر قيمة الإنسان "بالشفاء".. وشتّان بين معنى "الشفاء" في كلتا الدعوتين..